البلاغة والإعجاز البياني

لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 3

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ الختم لا يكون إلا للشيء المغلق، فهم أغلقوا قلوبهم وما عادوا مستعدين للاستماع ولا للتقبُّل فختم الله سبحانه عليها، فالختم هو الطابَع من الطين، فالعربي إذا أراد أن يحفظ شيئًا كان يغلق فوهته ويضع الطين على مكان عقدة الخيط ويختم بخاتِمه (خاتَم وخاتِم)، كما يستعمل الآن الختم بالشمع الأحمر، يقفل المكان ثم يختم عليه، وليس وهو مفتوح.

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾

﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لسببين: الأول: أن السمع لا يمكن أن يدرك عددًا من المسموعات فهمًا وضبطًا في وقت واحد, بعكس البصر الذي يرى أكثر من شيء في الوقت نفسه. الثاني: من جهة اللغة, وهو أن السمع مصدر, والمصدر لا يجمع؛ لكونه يدل على الحدث المطلق, وأما الأبصار والقلوب فأسماء تجمع.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ (مَن يَقُولُ) مفرد، و(هُم) جمع، (من) للمفرد والمثنى والجمع، والأصل في (من) إذا ذكرت أن يُبدأ بدلالة لفظها مفرد مذكر ثم ينصرف إلى المعنى الذي يحدده السياق.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ عَرَّفنا الله صفات المؤمنين في ثلاث آيات، وصفات الكفار في آيتين، وصفات المنافقين في ثلاث عشرة آية متتابعة لخطورتهم على الدين، فالذي يهدم الدين هو المنافق، أما الكافر فنحن نتقيه ونحذره، لأنه يعلن كفره.

﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ استعمل الشعور في الكلام على القضايا الظاهرة وعلى الأحاسيس الواضحة، فالمخادعة عمل ظاهر بالكلام وبالحركة يناسبه الشعور الذي فيه معنى الإحساس.

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وقبلها بآيتين: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فتأمل -أيها الموفق- كم تكرر الحديث عن القلب في هذه السورة فضلًا عن القرآن كله! لقد تحدثت سورة البقرة عن القلب في أحد عشر موضعًا، كلها تؤكد عظمة هذا العضو، وأن مدار الصلاح والفساد عليه، فاللهم أصلح قلوبنا.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ﴾

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ﴾ القائل هنا مبهم ليفيد العموم، فيشمل أي قائل في أي زمان ومكان، فلن ينقطع يومًا نسل المنافقين ولا سلالة المجرمين.

﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾

﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ لا عداء أشد من عداء المنافقين للمؤمنين؛ ولا إفساد أعظم من إفساد المنافقين في ديار المسلمين، ولذا جاءت الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكِّدات: ﴿ألا﴾، و﴿إنَّهُمْ﴾، و﴿هُمْ﴾، وهو من أبلغ صيغ التوكيد.

﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾

﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ المنافقون مع المؤمنين يقولون (آمَنَّا) بالجملة الفعلية، دليل على التجدد، فإيمانهم غير ثابت، متذبذب، وعندما يلقون الكافرين يقولون (نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)، والجملة الاسمية تدل على الثبوت.

﴿... لَقُوا ... خَلَوْا ...﴾

﴿... لَقُوا ... خَلَوْا ...﴾ ضبط واو الجماعة في (لَقُواْ) و(خَلَوْاْ): الواو ساكنة في الحالتين، وإنما هذا يتعلق بما قبلها، إذا كان الفعل منتهيًا بياء أو واو تُحذف ويضم ما قبل واو الجماعة: (لقي لقوا، نسي نسوا، خشي خشوا)، وإذا سبقت بألف يفتح ما قبلها: (خلا خلَوا).

﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ قال (يعمهون) ولم يقل (يعمون)؛ فـ(العمى) فقد البصر وذهاب نور العين، أما (العَمَه) فهو الخطأ في الرأي، والمنافقون لم يفقدوا بصرهم، وإنما فقدوا المنطق السليم، فهم في طغيانهم يعمهون.

﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى﴾

﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى﴾ اشتروا الضلالة! مه إنها شر سلعة, ودفعوا ثمن الشراء وضحوا في سبيلها بالهدي, وهو غاية ما يتمناه أي عاقل, فبئست الصفقة, وما أعظم الخسارة!
﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى﴾ ما الفرق بين الضلالة والفسق؟ الضلال هو نقيض الهداية، وقد يكون عن غير قصد وعن غير علم، تقول ضلَّ الطريق عن غير قصد ولا علم، أما الفسق فلا يكون إلا بعد علم، ينبغي أن يعلم أولًا حتى يقال عنه فاسق، وأصل الفسق هو الخروج عن الطريق: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: 26] بعد التبليغ والمعرفة تنكَّبوا الصراط، ويقال فسقت الرطبة أي خرجت من قشرتها.

رابط الوقفات التبدرية كاملة

سور القرآن الكريم - سورة البقرة

زر الذهاب إلى الأعلى