
البلاغة والإعجاز البياني
لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 4
لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 4
[17] ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ الألف والسين والتاء للطلب، فهذه النار مستعارة كما كان الإيمان المدّعى مستعارًا ولم يكن نابعًا من دواخلهم. [17] ﴿ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ قال: «بنورهم»، ولم يقل «بنارهم»؛ لأن النار فيها الإحراق والإشراق، فذهب بما فيه الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيه الأذى والإحراق، وكذلك حال المنافقين! ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم. [17] ما الفرق بين (أذهب نورهم) و(ذهب بنورهم)؟ أذهبت هذا الشيء: أي جعلته يذهب، أذهبته فذهب، أنت فعلت وهو أيضًا استجاب للفعل، فلو قال: (أذهب الله نورهم) كأنها تعني أمر النور أن يذهب فاستجاب وذهب، لكن هذا الذي ذهب قد يعود، أما: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ كأن الله تعالى اصطحب نورهم بعيدًا عنهم، وما اصطحبه الله عز وجل لا أحد يملك أن يعيده، هذا نوع من تيئيس الرسول ﷺ من المنافقين، لأن الجهد معهم ضائع، وهذه خصوصية للرسول ﷺ، ولا نقول نحن: أن هذا الشخص لا نفع من ورائه فلا داعي لوعظه وتذكيره. [17] تأمل في قوله تعالى عن المنافقين: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ كيف قال: ﴿بِنُورِهِمْ﴾ فجعله واحدًا، ولما ذكر ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ جمعها؛ لأن الحق واحد -وهو الصراط المستقيم- بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد الله الحق ويجمع الباطل، كقوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257]. [17] ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ﴾ لم يقل سبحانه (وتركهم في ظلام)، بل قال: (فِي ظُلُمَاتٍ)، أي أنها ظلمات متراكمة مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبدًا، لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة، وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم، وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة، ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة الإيمان، كل هذه ظلمات. [17] ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ﴾ في القرآن لم ترد كلمة (الظلمات) مفردة أبدًا، بخلاف النور ورد مفردًا. [18] ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ لم يقل صم وبكم وعمي؛ لأنه سيحتمل أن يكون هناك جماعة بكم، وجماعة صم، وجماعة عمي، لكن (صم بكم عمي) هذا تعبير قطعي أنهم جمعوا كل هذه الأوصاف، يعني كل واحد فيهم أعمى لا يبصر، وأصم لا يسمع، وأبكم لا يسأل ولا ينطق، (فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) تركهم متحيرين لا يرجعون إلى المكان الذي بدأوا منه، فقد فقدوا أشكال التواصل، فكيف يرجعون؟ لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه لأنهم: (اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى). [18] ما الفرق بين: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ و﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [171]؟ في الآية الأولى: هم لا يرجعون إلى النور الذي فقدوه؛ لأنهم نافقوا وطُبِع على قلوبهم والعياذ بالله فلا مجال للرجوع، أما الآية الثانية: لما تكلم الله عن آبائهم في الآية السابقة قال: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا﴾ فكما أن آباءهم لا يعقلون هم لا يعقلون، وأيضًا المثال الذي ضُرِب ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ صور هؤلاء وهم يُلقى عليهم كلام الله سبحانه وتعالى كمثل مجموعة أغنام، الراعي يصيح فيها، وهي تسمع أصواتًا لكنها لا تستطيع أن تعقلها، لا تفهم، فكأن هؤلاء وهم يستمعون إلى كلام الله سبحانه وتعالى كالأغنام لا يعقلون. [19] ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ قيل إن رعد القرآن: زواجره التي تخيف, وبرق القرآن: أنواره ومنافعه التي نالت المنافقين بعصمة دمائهم وأموالهم, وأما الظلمات فهي الشكوك التي تنتاب المنافقين من قراءة القرآن؛ وجعل أصابعهم في آذانهم هو تخوفهم وحذرهم من فضح نفاقهم, وكراهيتهم لتكاليف الشرع من الجهاد والزكاة. [19] في قوله تعالى: ﴿ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ جمع الظلمات، وأفرد الرعد والبرق، لأن المقتضي للرعد والبرق واحد، وهو: السحاب، والمقتضي للظلمة متعدد وهو: الليل والسحاب والمطر؛ فجمع لذلك. [19] ﴿يجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم﴾ المقصود هو الأنامل، وهذا مجاز مرسل حيث أطلق الكُلّ وأراد الجزء، كأنما لو استطاعوا أن يُدخلوا أصابعهم كلها في آذانهم لفعلوا من شدة الخوف. [20] ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ﴾ (كلما) تفيد التكرار، إذن لم تكن مرة واحدة، فهم حريصون على المشي لكي يصلوا. [20] قال: ﴿مَشَوْا﴾ ولم يقل: (سعوا)؛ لأن السعي هو المشي السريع، أما المشي ففيه بطء، إشارة إلى ضعف قواهم مع الخوف والدهشة. [20] قال: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ﴾ ولم يقل (إن أظلم)؛ (إذا) للمتحقق الوقوع، وللكثير الوقوع، أما (إن) فهي قد تكون للافتراضات وقد لا يقع أصلًا. [20] ﴿قَامُوا﴾ يعني وقفوا لم يتحركوا، وهذا عذاب أيضًا. [20] ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ كان يمكن أن يذهب بسمعهم مع قصف الرعد، وأن يذهب بأبصارهم مع ومض البرق، لماذا لم يفعل إذن؟ هو أراد أن يستمر الخوف؛ لأنه لو ذهب السمع والبصر لأصبحوا بمعزل، هو أراد أن يبقوا هكذا حتى يستمر الخوف، وقدم السمع لأن الخوف معه أشد، هذا عذاب مضاعف. [21] من لطائف اسم الربوبية (رب): أن أول أمر في القرآن معلل بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ فكان أول علة للأمر بالعبادة أنه (ربكم). [22] ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ ما الفرق بين البناء والبنيان؟ كلمة بناء تطلق على عملية بناء الدار أو المسجد، وكذلك تطلق على المبنى الذي ليس له شهرة أو ميزة وقابل للتغيير والتحوير ككل بيوتنا العادية، أما إذا كان المبنى ثابتًا وتاريخيًا وله مدلول وله شهرة وطول أمد بالقرون وغير قابل للتحوير يسمى بنيان، ولذلك رب العالمين قال: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾، ما قال (بنيانًا)؛ لأن بنيان السماء يتغير، وهذا ثابت علميًا. [23] ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ التحدي كان بأكثر من صورة، السور المكية جميعًا جاءت من غير (من)، فتأمل: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور: 34]، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: 38]، ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ [هود: 13]، هذا كان في مكة، أما في المدينة (سورة البقرة) هنا القرآن انتشر وصار أسلوبه معروفًا، الآن يقول لهم ﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ (من) للتبعيض، هو لم يقل: فأتوا بمثله وإنما ببعض ما يماثله، أو بعض ما تتخيلونه مماثلًا، ولا يوجد ما يماثله فما معناه؟ هذا معناه زيادة التوكيد، أنه لو تخيلتم أن لهذا القرآن مثالًا فحاولوا أن تأتوا بجزء من ذلك المثال الذي تخيلتموه، فهذا أبعد في التيئيس من قوله (مثله) مباشرة، هذا إمعان في التحدي.
[23] ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ شهداءكم: أي آلهتكم, وأمرهم بدعوة الأصنام وهي جماد, مع تسميتها شهداء رغم أنها لا تعقل, كلون من ألوان التهكم, لتنبيههم إلي جهلهم وسفاهة عقولهم.