البلاغة والإعجاز البياني

لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 7

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾

 [39] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ الآيات جمع آية، وهي الشيء الذي يدل على أمر من شأنه أن يخفى، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات؛ لأنها وضعت لإرشاد الناس إلى الطرق الخفية في الرمال، وسميت جُمَل القرآن آيات؛ لأنها ترشد الضالّ في متاهة الحياة إلى طريق الخير والفلاح.

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ 

 [40] ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أغلب السور يضرب المثل بقصة موسى ففيها تفاصيل كثيرة، وذُكرت أكثر من القصص الأخرى؛ لأن تلك الأقوام بادت وهلكت ولم يبق منها أحدًا، أما بنو إسرائيل فباقون في زمن الرسول ﷺ ومستمرون إلى الآن، وكان لهم مع الرسول ﷺ حوادث ومواقف وعداء وإلى الآن، ومستمرون إلى ما قبل يوم القيامة، فإذن التكرار له دلالته لأنهم سيبقون معكم إلى ما شاء الله وهم يحاربونكم ويمكرون، فذكر أفعالهم مع موسى ولقد أوذي أكثر من هذا فصبر، وذكر كثير من أحوالهم حتى نتعظ.

 [40] ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ اختار تعالى لفظ (العهد) لليهود، ولم يقل أوفوا وعدكم؛ لأن الله تعالى خاطبهم باسم التوراة المعروف عندهم (العهد)، لذلك الكلمة مزدوجة الدلالة لأمرين: لأنها تأمرهم بالتزام أوامر الله، وتأمرهم بالتزام وصايا الله تعالى المبثوثة في طيّات العهد القديم، والتي فيها الإيمان بمحمد ﷺ.

﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾

[41] ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ دخلت الباء على (آياتي) لتعلمنا أن اليهود جعلوا آيات الله تعالى كدراهم، واشتروا بها عرضًا من أعراض الدنيا لا قيمة له، لذلك جاء وصفه بـ (قَلِيلًا)؛ لأنهم بذلوا أنفس شيء واشتروا به حظًا قليلًا.

 [41] الثمن القليل جاء في القرآن حيثما ورد في الكلام عن آيات الله وعن عهد الله سبحانه وذلك لأن العدوان على حق الله مهما بلغ فهو ثمن قليل: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي ثمن يناسب آيات الله عز وجل؟ لا شيء، أيًا كان الثمن فهو قليل.

 [41] ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ما فائدة قليلًا، والكثير كذلك؟ الجواب: فيه مزيد الشناعة عليهم؛ لأن من يشترى الخسيس بالنفيس لا معرفة له ولا نظر.

﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾

 [45] ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ حُذِف المتعلق لإفادة العموم، والمعنى: استعينوا بهما على كل شيء، من أمور دينكم ودنياكم.

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

[47] ناداهم الله: بـ ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ مُهَيِّجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب علية السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله: كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم: افعل كذا، يا ابن الشجاع: بارز الأبطال، يا ابن العالم: اطلب العلم، ونحو ذلك.

[47] ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ ما الفرق بين كلمتي (نَعمة) بفتح النون، و(نِعمة) بكسر النون في القرآن؟ الجواب: (النَّعْمَة) بالفتح هي الترفه والراحة، وأما (النِّعمة) بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية، وأمن، ورزق، ونحو ذلك.

[47] ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ قال ابن فارس: «فيه ورود العام المراد به الخصوص؛ لأن المراد عالمو زمانهم».

 [47] ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ليس بالضرورة ينسحب إلى العالمين الآن، وإنما في زمانهم، فأحيانًا ربنا يذكر العالمين ولا يقصد كل البشر، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٨٦) هل في المذكورين أحد من أولي العزم؟ لا، ولا واحد، هل فضلهم على أولي العزم؟ لا، وإنما كل واحد في زمانه.

﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾

 [48] ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ قدم الله هنا الشفاعة علي أخذ الفدية, لكنه في الآية (123) من نفس السورة قدم الفدية علي الشفاعة: فما السبب؟! قيل: من كان ميله إلي حب المال أشد من ميله إلي علو النفس, فإنه يقدم التمسك بالشفعاء علي دفع الفدية, ومن كان بالعكس قدم الفدية علي الشفاعة, ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى كلا الصنفين.

 [48] ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ هذه الآية وردت مرتين في سورة البقرة، وصدر الآيتين متفق، الآية الأولى رقم [48] وتختم بـ: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾، والثانية رقم [123] وتختم بـ: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾، في الآية الأولى الشفاعة مقدمة، وقال: لا يقبل، والعدل متأخر، وفي الآية الثانية العدل مقدم، والشفاعة مؤخرة، وقال لا تنفع، فما السبب؟ قوله تعالى: ﴿لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا﴾ كم نفسًا هنا؟ إنهما اثنتان، النفس الأولى هي الجازية، والنفس الثانية هي المجزي عنها، وقوله تعالى: ﴿لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ هنا الضمير يعود إلى النفس الأولى الجازية التي تتقدم للشفاعة عند الله، وتحاول أن تتحمل عن النفس المجزي عنها، فالمعنى أنه سيأتي إنسان صالح يوم القيامة ليشفع عند الله تعالى لإنسان أسرف على نفسه، فلا تقبل شفاعته، فإذا فشلت الشفاعة: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾، ولا يسمح له بأي مساومة أخرى، وهذا ترتيب طبيعي للأحداث فقد طلب هؤلاء الشفاعة أولًا ولم تقبل، فدخلوا في حد آخر وهو العدل فلم يؤخذ.
• في الآية الثانية: يتحدث الله تبارك وتعالى عن النفس المجزي عنها قبل أن تستشفع بغيرها وتطلب منه أن يشفع لها، لابد أن تكون قد ضاقت حيلها وعزت عليها الأسباب فيضطر أن يذهب لغيره، وفي هذا اعتراف بعجزه، فيقول: يا رب ماذا أفعل حتى أكفر عن ذنوبي؟ فلا يقبل منه، فيذهب إلى من تقبل منهم الشفاعة، فلا تقبل شفاعتهم: ﴿لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾، أي أن الضمير هنا عائد على النفس المجزي عنها، فهي تقدم العدل أولًا، والعدل هو المقابل، كأن يقول المسرف على نفسه: يا رب فعلت كذا، وأسرفت على نفسي، فأعدني إلى الدنيا أعمل صالحًا، فلا يقبل منها، فتبحث عن شفعاء فلا تجد، ولا تنفعها شفاعة.

 

تقييم الموضوع

0%

لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 7 - اللمسات البيانية في القرآن الكريم - موقع الحفظ الميسر

تقييم المستخدمون: 3.99 ( 7 أصوات)
زر الذهاب إلى الأعلى