
لمسات بيانية من سورة البقرة صفحة رقم 13
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾
[84] ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ …﴾ هذه الآية تخاطب بني إسرائيل الذين مضوا، ومع ذلك جاءت بصيغة المخاطب؛ لتبين للمؤمنين أن الخلف من بني إسرائيل هم بمنزلة أسلافهم، فأفعالهم واحدة، وتصرفاتهم موروثة.
[84] ﴿لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ (لا) نافية للجنس، وليست ناهية -لم تجزم- لكن بمعنى النهي، يسمونه خروج الخبر إلى النهي، يراد به معنى الأمر: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] معناها ليرضعن، ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، هي نافية قطعًا، ويراد بها النهي.
﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
[85] ﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ تأمل كيف سمى الله تعالى قتل بعضهم بعضًا قتلًا لأنفسهم؛ لأن المؤمن مع أخيه كالنفس الواحدة؛ يحزنه ما أحزنه، ويفرحه ما أفرحه.
[85] ﴿ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم﴾ لم يقتلوا الجميع ولكنه عمم، بعكس الإخراج فإنه خصص، لأن قتل واحد كقتل الجميع.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾
[87] ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ اليهود قتلة الأنبياء! ﴿تَقْتُلُونَ﴾ ولم يقل (قتلتم) كما قال ﴿كَذَّبْتُمْ﴾، وكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام كل سامع، وجعله ينظر إليها بعينه، ليكون إنكاره لذلك أبلغ، واستفظاعه أعظم.
[87] ﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ ما دلالة صيغة الفعل المضارع في (تَقْتُلُونَ) مع أن هذا الأمر قد مضى؟ هذا يُسمَّى حكاية الحال، بمعنى إذا كان الحدث ماضيًا، وكان مهمًّا؛ فإن العرب تأتي بصيغة المضارع حتى تجعل الحدث وكأنه شاخص ومُشاهد أمامك، والمضارع يدل على الحال والاستقبال، والإنسان يتفاعل عادة مع الحدث الذي يشاهده أكثر من الحدث الذي لم يره، أو الذي وقع منذ زمن بعيد، وفي الآية عبَّر الله تعالى عن قتل اليهود لأنبيائهم بالمضارع لتبقى مستحضرًا لهذا الفعل الشنيع الذي ارتكبوه.
[87] ﴿وَأَيَّدْنَاهُ﴾ الفعل أيدناه مأخوذ من اليد، وأيَّدناه أي قوَّيناه، وشددنا أزره وعضده، واليد تطلق عادة على القدرة والمنعة؛ لأنها آلة القوة والدفاع عن النفس ومنع الآخرين من الاعتداء.
[87] ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وسمي جبريل بروح القدس لأنه بمنزلة الأرواح للأبدان, فيحيي الله بالوحي الذي ينزل به جبريل من مات قلبه.
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾
[88] ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ يشبه سلوكَ هؤلاء اليهود سلوك الذي إذا نُصِح ودُعِي إلى الحق، قال: ما هداني الله، أو: لم يكتب الله لي الهداية بعد.