قوله تعالى : { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } ؛ إنما أخبروا عن ظاهر الحال لا عن باطنها ، إذ لم يكونوا عالمين بباطنها ؛ ولذلك قالوا : { وَمَا كُنَّا للغَيْبِ حَافِظِينَ } ، فكان في الظاهر لما وُجِدَ الصاعُ في رحله أنه هو الآخذ له فقالوا : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } يعني من الأمر الظاهر لا من الحقيقة . وهذا يدل على جواز إطلاق اسم العلم من طريق الظاهر وإن لم يعلم حقيقة ، وهو كقوله : { وإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } [ الممتحنة : 10 ] ، ومعلوم أنا لا نحيط بضمائرهنّ علماً وإنما هو على ما يظهر من إيمانهن .
وقد قيل في قوله : { وَمَا كُنَّا للْغَيْبِ حَافِظِينَ } معنيان ، أحدهما : ما رُوي عن الحسن ومجاهد وقتادة : " ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق " ، والآخر : ما قدَّمْنا ، وهو أنا لا ندري باطن الأمر في السرقة . فإن قيل : لم جاز له استخراج الصاع من رحل أخيه على حال يوجب تهمته عند الناس مع براءة ساحته وعَمَّ أبيه وإخوته به ؟ قيل له : لأنه كان في ذلك ضروب من الصلاح ، وقد كان ذلك عن مواطأة من أخيه له على ذلك وتلطُّف في إعلام أبيه بسلامتهما ، ولم يكن لأحد أن يتهمه بالسرقة مع إمكان أن يكون غيره جعله في رَحْلِهِ ، ولأن الله تعالى أمره بذلك تعويضاً ليعقوب عليه السلام للبلوى بفقده أيضاً ليصبر فيتضاعف ليعقوب عليه السلام الثواب الجزيل بصيره على فقدهما .
مطلب : يجوز الاحتيال في التوصل إلى المباح .
وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } إلى قوله : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق ؛ وذلك لأن الله تعالى رضي من فعله ولم ينكره ، وقال في آخر القصة : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } ، ومن نحو ذلك قوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } [ ص : 44 ] ، وكان حلف أن يضربها عدداً ، فأمره الله تعالى بأخذ الضِّغْثِ وضربها به ليبرَّ في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها . ومن نحوه النهيُ عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعريض . ومن جهة السنّة حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل رجلاً على خيبر فأتاه بتمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ " فقال : لا والله ، إنما نأخذ الصاع بالصَّاعَيْنِ والصَّاعَيْن بالثلاثة ، قال : " فلا تَفْعَلْ بِعِ الجَمِيعَ بالدَّرَاهِمَ ثمَّ اشْتَرِ بالدَّرَاهِمِ تَمْراً " ، كذا رَوَى ذلك مالك بن أنس عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة ؛ فحظر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل في التمر وعلّمه كيف يحتال في التوصل إلى أخذ هذا التمر . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهند : " خُذِي مِنْ مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمَعْرُوفِ " . فأمرها بالتوصل إلى أخْذِ حقّها وحقّ ولدها . ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورَّى بغيره . ورَوَى يونس ومعمر عن الزهري قال : أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان بن حرب أن ائتونا فإنا سَنُغِيرُ على بَيْضَةِ المسلمين من ورائهم ، فسمع ذلك نعيم بن مسعود وكان موادعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عند عيينة حين أرسلت بذلك بنو قريظة إلى الأحزاب أبي سفيان وأصحابه ، فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وما أرسلت بنو قريظة إلى الأحزاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلّنا أُمِرْنا بِذَلِكَ " ، فقام نعيم يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث ، فلما ولَّى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى غطفان قال عمر : يا رسول الله ما هذا الذي قلت ! إن كان أمراً من أمر الله فأمْضِهِ وإن كان هذا رأياً رأيتَهُ من قِبَلِ نفسك فإن شأن بني قريظة أَهْوَنُ من أن تقول شيئاً يُؤْثَرُ عنك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَلْ هَذَا رَأْيٌ إِنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ " . ورَوَى أبو عثمان النهدي عن عمر قال : " إن في معاريض الكلام لمَنْدُوحَةٌ عن الكذب " . وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : " ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النَّعَم " . وقال إبراهيم صلوات الله عليه للملك حين سأله عن سارة فقال : من هي منك ؟ قال : هي أختي ؛ لئلا يأخذها ، وإنما أراد أختي في الدين ؛ وقال للكفار : إني سقيم ، حين تخلّف ليكسر آلهتهم ، وكان معناه : إني سأسقم يعني أموت ، كما قال الله تعالى : { إنك ميت } [ الزمر : 30 ] ، فعارض بكلامه عما سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحق فيه الكذب . فهذه وجوه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالاحتيال في التوصل إلى المباح ، وقد كان لولا وجه الحيلة فيه محظوراً ؛ وقد حرّم الله الوطء بالزنا وأمرنا بالتوصل إليه بعقد النكاح وحظر علينا أكْلَ المال بالباطل وأباحه بالشِّرى والهبة ونحوها ، فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظوراً من الجهة التي أباحته الشريعة فإنما يردّ أصول الدين ، وما قد ثبتت به الشريعة .
فإن قيل : حظر الله تعالى على اليهود صَيْدَ السمك يوم السبت فحبسوا السمك يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فعاقبهم الله عليه . قيل له : قد أخبر الله تعالى أنهم اعْتَدَوْا في السبت ، وهذا يوجب أن يكون حبسها في السبت قد كان محظوراً عليهم ، ولو لم يكن حَبْسُهم لها في السبت محرماً لما قال : { اعتدوا منكم في السبت } [ البقرة : 65 ] .