قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ }
يعني الآيات التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها . وهذا تصديق تأويل مِقْسَمٍ . فأما السؤال عن أحكامٍ غيرِ منصوصة فلم يدخل في حظر الآية ، والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع البُدْنَ لينحرها بمكة قال : كيف أصنع بما عطب منها ؟ فقال : " انْحَرْهَا واصْبُغْ نَعْلَها بدَمِهَا واضْرِبْ بها صَفْحَتَها وخَلِّ بَيْنَها وبَيْنَ النّاسِ ولا تَأْكُلْ أنْتَ ولا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رِفْقَتِكَ شيئاً " ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله . وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : إنّا لاقوا العدوّ غداً وليس معنا مُدًى ، فلم ينكره عليه . وحديث يَعْلَى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته ، فلم ينكره عليه . وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد . ورَوَى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال : قلت : يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن أمْرٍ ويمنعني مكان هذه الآية : { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } ، فقال : " ما هو ؟ " قلت : العمل الذي يدخلني الجنة ؟ قال : " قَدْ سَأَلْتَ عَظِيماً وإنّهُ ليَسِيرٌ ؛ شَهَادَةُ أنْ لا إله إلاّ الله وأني رَسُولُ الله وإقَامُ الصَّلاةِ وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحَجُّ البَيْتِ وصَوْمُ رَمَضَانَ " فلم يمنعه السؤال ولم ينكره .
وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف عن عمر قال : " تفقهوا قبل أن تَسُودُوا " . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام ، وعلى هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا . وإنما أنكر هذا قومٌ حَشْوٌ جُهَّالٌ قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ " . وهذه الطائفة المنكرة لذلك كمن قال الله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } قال ابن عباس : " قوم عيسى عليه السلام سألوا المائدة ثم كفروا بها " . وقال غيره : " قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها " . وقال السدي : " هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحوّل لهم الصفا ذهباً " . وقيل إن قوماً سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبدالله بن حذافة ومن قال أين أنا ، فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا .