باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو بكر : أكّد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه ، وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه ، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه ، وإن كان قد تعرض أحوال من التَّقِيَّةِ يَسَعُ معها السكوتُ . فمما ذكره الله تعالى حاكياً عن لقمان : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } [ لقمان : 17 ] يعني والله أعلم : واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه . وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة : { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] إلى قوله : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } [ التوبة : 112 ] ، وقال تعالى : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } [ المائدة : 79 ] .
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السريّ قالا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد ، وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ رَأَى مُنْكَراً فاسْتَطَاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وذَاكَ أضْعَفُ الإِيمَانِ " .
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص قال : حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ في قَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِمْ بالمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فلا يُغَيِّرُوا إلاّ أصابَهُمُ الله بعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَمُوتُوا " . فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله .
وربما ظنّ من لا فِقْهَ له أن ذلك منسوخٌ أو مقصورُ الحكم على حال دون حال ، وتأوَّلَ فيه قول الله تعالى : { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وليس التأويل على ما يظن هذا الظانّ لو تجردت هذه الآية عن قرينة ، وذلك لأنه قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } يعني : احفظوها لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم ؛ ومن الاهتداء اتباعُ أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا ، فلا دلالة فيها إذاً على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد رُوي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى ، فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر على المنبر يقول : يا أيها الناس إني أراكم تأوّلون هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنّ النّاسَ إذا عُمِلَ فيهم بالمَعَاصِي ولم يُغَيِّروا أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابِهِ " ؛ فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا يضره ضلالُ من ضلَّ إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية : { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : " يعني من أهل الكتاب " ، وقال أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال : " من اليهود والنصارى ومن ضلّ من غيرهم " . فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أُقِرُّوا ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام ، فهذا لا يضرنا الإمساك عنه . وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من المعاصي والفسوق والظلم والجور ، فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الذي قدمنا . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال : حدثنا عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثنا أبو أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم ؟ فقال : أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بَلِ ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْتَ شُحّاً مُطاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً ودُنْيَا مُؤْثِرَةً وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برَأْيِهِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ فإنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيّامَ الصَّبْرِ ، الصَّبْرُ فيه كَقَبْضٍ عَلَى الجَمْرِ ، للعامِلِ فيها مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ " . قال : وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : " أجْر خَمْسين مِنْكم " وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر ، لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة ، وفرضُ النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام : " فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ فإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ " ، فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذُكِرَ ، كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقيَّةِ ولتعذّر تغييره . وقد يجوز إخفاءُ الإيمان وتركُ إظهاره تقيةً بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان ، قال الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد رُوي فيه وجهٌ آخر ، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو مسهر عن عبّاد الخوّاص قال : حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، أن أبا الدرداء وكعباً كانا جالسين بالجابية ، فأتاهما آتٍ فقال : لقد رأيت اليوم أمراً كان حقّاً على من يراه أن يغيره ! فقال رجل : إن الله تعالى يقول : { يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } ، فقال كعب : إن هذا لا يقول شيئاً ، ذُبَّ عن محارم الله تعالى كما تذبّ عن عائلتك حتى يأتي تأويلها . فانتبه لها أبو الدرداء فقال : متى يأتي تأويلها ؟ فقال : إذا هُدمت كنيسة دمشق وبُني مكانها مسجد فذلك من تأويلها ، وإذا رأيت الكاسيات العارياتِ فذلك من تأويلها ؛ وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها ، فذلك من تأويلها . قال أبو مسهر : وكان هدمُ الكنيسة بعهد الوليد بن عبدالملك ؛ أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها . وهذا أيضاً على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس .
مطلب : في ذم الحجّاج الظالم
ولعمري إن أيام عبدالملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذّر ذلك والخوف على النفس ؛ وقد حُكي أن الحجّاج لما مات قال الحسن : " اللهم أنتَ أمَتَّهُ فاقطع عنا سُنَّتَهُ فإنه أتانا أُخَيْفِشَ أُعَيْمِشَ يمد بيد قصيرة البَنَانِ والله ما عرق فيها عِنَانٌ في سبيل الله عز وجل ، يرجِّل جُمَّتَهُ ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتّقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل " ، ثم قال الحسن : " هيهات والله ! حَالَ دون ذلك السيفُ والسوطُ " .
وقال عبدالملك بن عمير : " خرج الحجّاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم ، ومرة عن أهل العراق يذمّهم حتى لم نَرَ مِنَ الشمس إلا حمرةً على شرف المسجد ، ثم أمر المؤذن فأذن فصلَّى بنا الجمعة ، ثم أذّن فصلى بنا العصر ، ثم أذّن فصلى بنا المغرب ، فجمع بين الصلوات يومئذ " . فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان ، وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكاراً منهم لكُفْرِهِ وظلمه وجوره ، فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقَتل منهم من قَتل ووَطِئَهُمْ بأهل الشام حتى لم يبق أحد ينكر عليه شيئاً يأتيه إلا بقلبه . وقد رَوَى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبدالله بن مسعود ، أنه ذكر عنده هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : لم يجيء تأويلها بَعْدُ ، إن القرآن أُنزل حين أنزل ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، وكان منه آيٌ وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه آيٌ وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آيٌ يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آيٌ يقع تأويلهن عند الساعة ، ومنه آيٌ يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار ، فقال : فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شِيَعاً ولم يَذُقْ بعضُكم بأسَ بعض فأْمُرُوا بالمعروف وانْهَوْا عن المنكر ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء ولبستم شِيَعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤٌ ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
قال أبو بكر : يعني عبدالله بقوله : " لم يجئ تأويلها بعد " أن الناس في عصره كانو ممكَّنِينَ من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجّار ، فلم يكن أحد منهم معذوراً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان ، ثم إذا جاء حال التقيَّةِ وتَرْكِ القبول وغَلَبَتِ الفجَّارُ سُوِّغَ السكوتُ في تلك الحال مع الإنكار بالقلب ؛ وقد يسع السكوت أيضاً في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظوراً ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل ، فحينئذ يسع السكوت . وقد رُوي نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية . وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } قال : قولوها ما قُبلت منكم ، فإذا رُدَّتْ عليكم فعليكم أنفسكم . فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا رُدَّتْ ولم تُقبل ، وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده ؛ لأنه لا يجوز أن يُتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره .
حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن عبدالله بن عبدالرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أو لَيَعُمُّكُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ " . قال أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي سفيان عن أبي نضرة قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين ، قال : وما هما ؟ قال : لا آمر بالمعروف ولا أنْهَى عن المنكر ، قال : لقد طَمَسْتَ سهمين من سهام الإسلام ، إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذّبك .
قال أبو عبيد : وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز وجل ، قال أبو عبيد : أخبروني عن سفيان بن عيينة قال : حدثت ابن شبرمة بحديث ابن عباس : " من فَرَّ من اثنين فقد فَرَّ ، ومن فر من ثلاثة لم يفر " فقال : أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا ، لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما . وذهب ابن عباس في ذلك إلى قوله تعالى : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } [ الأنفال : 66 ] ؛ وجائز أن يكون ذلك أصلاً فيما يلزم من تغيير المنكر . وقال مكحول في قوله تعالى : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } : إذا هاب الواعظُ وأنكر الموعوظُ فعليك حينئذ نفسك لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت . والله الموفق .