قوله تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث . . . . } إلى قوله تعالى : { وعلما } :
تفسير ما جاء في هذه الآية أن داود عليه السلام كان من بني إسرائيل وكان يحكم بين الناس فوقعت بين يديه هذه النازلة وكان ابنه سليمان إذ ذاك قد كبر ، وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم {[9726]} ، وكانوا يدخلون من باب ويخرجون من آخر . فتخاصم إلى داود عليه السلام رجلان : أحدهما : له زرع {[9727]} وقيل له كرم {[9728]} ويقال لهما جميعا حرث والآخر : له غنم . وذكر صاحب الحرث أن غنم صاحبه دخلت حرثه فأفسدته عليه فرأى داود أن يدفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث . واختلف الناس هنا . فقال بعضهم على أن يبقى حرثه بيده . وقال آخرون بل دفع صاحب الغنم غنمه إلى صاحب الحرث ودفع صاحب الحرث حرثه إلى صاحب الغنم . فلما خرج الخصمان على سليمان تشكى صاحب الغنم . فجاء سليمان إلى داود فقال : يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا ، وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع . فقال وما هو ؟ قال : أن يدفع إلى صاحب الزرع الغنم ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان . وقيل إنه قال أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ، ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل وغير ذلك ، وإذا عاد الحرث إلى هيئته صرف كل واحد مال صاحبه . فقال داود : وفقت يا بني . وقضى بينهما بذلك{[9729]} واختلف هل حكم كل واحد منهما باجتهاد أو بتوقيف ووحي . فذهب الجمهور إلى أن حكمهما إنما كان عن اجتهاد . قال بعضهم : اجتهد داود فلم يصب الأشبه وأصابه سليمان . وقال آخرون بل أخطأ خطأ مغفورا له {[9730]} . وذهب قوم إلى أنه عن توقيف ووحي ، منهم ابن فورك ، وحمل قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } أي فهمناه القضاء الفاصل الذي أراد الله تعالى أن يستقر في النازلة {[9731]} . وعلى هذا يكون {[9732]} حكم سليمان ناسخا لحكم داود على حقيقة النسخ . وهذا تأويل بعيد ، بل الأولى أن يحمل على ظاهره من أنه فهمها الله تعالى سليمان فحكم فيها برأيه . وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف الأصوليين في جواز تعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالاجتهاد . فمنهم من أجازه ومنهم من منعه {[9733]} وأما الوقوع فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : قال به قوم وعلى ذلك يحملون الآية ، ونفاه آخرون وتأولوا الآية على مذهبهم ، وتوقف قوم إذ لم يثبت فيه قاطع . واختلف الأصوليون هل كل مجتهد في المسائل الضمنية مصيب أم لا اختلافا كثيرا . فذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب وأنه ليس في الواقعة حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتعين بالظن . وإليه ذهب القاضي {[9734]} . وذهب قوم إلى أن كل مجتهد مصيب إلا أنهم رأوا في النازلة المحكوم فيها حكما معينا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابته فبذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين ، بمعنى أنه أدى ما كلف وأصاب ما عليه . وذهب قوم إلى أن المصيب واحد وأن في الواقعة حكما معينا . واختلف الذين ذهبوا إلى هذا القول بعد ذلك في الدليل على ذلك الحكم اختلافا كثيرا ليس هذا بموضع ذكره ، ومن أبين ما يحتجون به هذه الآية لأنه تعالى قال : { ففهمناها سليمان } ، قالوا يدل على اختصاص سليمان بإدراك الحق وأن الحق واحد . فأجابت المصوبة {[9735]} عن هذا بأجوبة لا يتبين الانفصال بها {[9736]} منها ، وإن قال بل الآية على نقيض مذهبكم {[9737]} أدل لأنه تعالى قال : { وكلا آتينا حكما وعلما } ، والباطل والخطأ لا يكون حكما . ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله سبحانه وأنه الحكم والعلم الذي أنزل الله عز وجل لا سيما في معرض المدح والثناء . فإن قيل فما معنى قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } فالجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أن يقال لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود . والثاني : أن يقال معناه أنه فهم الحكم الذي هو أرجح في النازلة . ومنها أنه يحتمل أنهما كانا مأذونا لهما في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان . ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان ، فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافها لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه . ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذا قد نقل المفسرون أن سليمان حكم بأن تسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا . وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما تلف على صاحب الزرع ، وذلك لا يدركه علام الغيوب ولا يدرك بالاجتهاد . ويتعلق بهذه {[9738]} الآية رجوع الحاكم بعض قضائه إلى {[9739]} اجتهاد آخر أرجح منه ، فإن داود عليه السلام قد فعل ذلك في هذه النازلة . وقد اختلف في ذلك ، فقال مطرف وابن الماجشون ذلك له ما دام في ولايته ، وهو ظاهر قول مالك . وقال سحنون وابن عبد الحكم ليس له ذلك إذا وافق قولا . وقال أشهب إن كان ذلك في مال فله نقض الأول وإن في نكاح أو طلاق أو عتق فليس له نقضه . وحجة القول الأول الآية ، وما كان من داود من الرجوع {[9740]} .
– وقوله تعالى : { إذ نفشت فيه غنم القوم } :
النفش بالليل ، والهمل بالنهار وقيل في الليل والنهار . وقد رأى بعضهم أن هذه الآية اقتضت تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار وكذلك سائر الدواب . قال لأن النفش لا يكون إلا بالليل {[9741]} . وهذه مسألة قد اختلف فيها عندنا على أقوال : أحدها : أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن ليلا كان أو نهارا يضمن قيمة ما أفسدت كائنا ما كان ، وإلى نحو هذا ذهب عطاء . والثاني : أن {[9742]} صاحبها ضامن ليلا كان {[9743]} أو نهارا ولا يضمن أكثر من قيمة الدابة وهو قول الليث بن سعد . والثالث : أنه ضامن لما أصابت بالليل ما عدا الدماء ولا يضمن ما أصابت بالنهار وهو قول مالك والشافعي . والرابع : أنه غير ضامن ما أصابت {[9744]} ليلا كان أو نهارا وهو قول أبي حنيفة والثوري في أحد قوليه . والخامس : أنه يضمن بالليل دون النهار في الحيطان المخطرة ، وأما غير المخطرة فيضمن أرباب الغنم ما أفسدت من ليل أو نهار ، وهذا القول في كتاب ابن سحنون . والسادس الفرق بين الأموال والدماء . وضعف أبو الوليد الباجي الحجة بالآية على تضمين أرباب المواشي بالليل ، قال : لأنه لو كان في الآية التصريح بالحكم أنه ضمن أهل الماشية التي نفشت لم يكن نفي الحكم بذلك في الراعية بالنهار إلا من دليل الخطاب وليس عندي ذلك دليل صحيح ، فكيف والآية لم تتضمن تفسير الحكم ولا ثبوته وإنما فسر ذلك أقوال تفسير ولا حجة فيها . وحجة مالك في التضمين بالليل دون النهار الآية . وقد جاء في الحديث ما يعضدها وذلك أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحائط حفظها بالنهار وإنما ما أفسدت المواشي بالليل مضمون{[9745]} على أهلها . وعن الزهري أن شاة وقعت في كرى حائط فاختصموا إلى شريح ، فقال الشعبي : انظروا ليلا وقعت فيه أو نهارا ، فإن كان بالليل ضمن صاحبها وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ : { إذ نفشت فيه غنم القوم } ، فالآية على هذا في التضمين لما أفسدت الماشية بالليل محكمة جاريا على أحكام شرعنا . واحتج من لم ير التضمين ليلا كان أو نهارا بقوله عليه الصلاة والسلام : " جرح العجماء جبار " {[9746]} وحملوه على العموم ورأوه ناسخا للآية . وهذا القول ضعيف من أوجه : أحدها : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بأن شريعة من قبلنا لازمه لنا . والثاني : أنه لا يصح النسخ إلا على القول بجواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة ، ومن يسلم أن هذا الحديث متواتر . والثالث : أنه قد يمكن الجمع بين الآية والحديث فلم يضطر إلى النسخ وذلك أن الحديث عام يحتمل الخصوص ، فيحتمل أن يريد بذلك فيما ليس على صاحب العجماء حفظها منه . فأما ما على صاحبها حفظها منه ثم أصابته فليس بجبار . وأما صفة التضمين الذي جاء في قصص الآية فمنها ما يحتمل أن يخرج على شرعنا ، وذلك ما قضى به داود من أن {[9747]} الغنم لصاحب الزرع ، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها ، فلذلك قضى بها لصاحب الزرع . وأما تضمين سليمان فليس بخارج عن مألوف شرعنا . وحكا أبو الحسن أن الحسن صار إلى مثل ما حكم به سليمان من أن تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ليصيب من ألبانها وأصوافها حتى يعود الزرع كما كان . قال وإنما صار إلى ذلك إذ لم ير في شرعنا ناسخا مقطوعا به عنده{[9748]} .