التّفسير
عُشاق الحق
مرّة أُخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويُجيب على بعض ذرائع المعارضين .
في البداية تقول الآيات: ( وبالحق أنزلناه ) ،ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة ( وبالحق نزل ) .
ثمّ تقول: ( وما أرسلناك إِلاَّ مُبشراً ونذيراً ) إِذ ليسَ لك الحق في تغيير محتوى القرآن .
لقد ذكر المفسّرون آراء مُختلفة في الفرق بين الجملة الأُولى: ( وبالحق أنزلناه ) والجملة الثّانية: ( وبالحق نزل ) مِنها:
1المراد مِن الجملة الأُولى: إِنّنا قَدّرنا أن ينزل القرآن بالحق .بينما تضيف الجملة الثّانية أنَّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ،لذا فإِنَّ التعبير الأوّل يُشير إلى التقدير ،بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق{[2260]} .
2الجملة الأُولى تشير إلى أنَّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ،أمّا التعبير الثّاني فانَّهُ يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضاً{[2261]} .
3الرأي الثّالث يرى أنَّ الجملة الأُولى تقول: إِنّنا نزَّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول: إِنَّ الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يتدخل في الحق ولم يتصرف بهِ ،لذا فقد نزل الحقّ .
وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح مِن هذه التّفاسير ،وهو أنَّ الإِنسان قد يبدأ في بعضِ الأحيان بعمل ما ،ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب مِن ضعفه ،أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ،فإِنَّهُ يبدأ بداية صحيحة ،ويُنهي العمل نهاية صحيحة .وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماءً صافياً مِن أحد العيون ،ولكن خلال مسير هذا الماءلا يستطيع ذلك الشخص أن يُحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعهُ مِن التلوث ،فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو مُلَوَّث .إِلاَّ أنَّ الشخص القادر والمحيط بالأُمور ،يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له .
القرآن كتاب نزلَ بالحق مِن قبل الخالق ،وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ،أو المرحلة التي كان الرّسول فيها هو المتلقي ،وبمرور الزمن لن تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إِليه بمقتضى قوله تعالى: ( إِنا نحنُ نزَّلنا الذكر وإِنّا لهُ لحافظون ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته .
لذا فإِنَّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإِلهي القويم لم تنله يد التحريف والتبديل مُنذ عصر الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحتى نهاية العالم .
الآية التي تليها ترد على واحدة مِن ذرائع المعارضين وحججهم ،إِذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولماذا كان نزوله تدريجياً ؟كما تُشير إلى ذلك الآية ( 32 ) مِن سورة الفرقان التي تقول: ( وقالَ الذين كفروا لولا نُزّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدةً ،كذلك لِنثِّبتَ بهِ فؤادَكَ ورتلناه ترتيلا )