فيقول الله في جواب هؤلاء: ( وقرآناً فرَّقناه لتقرأهُ على الناس على مُكث ){[2262]} حتى يدخل القلوب والأفكار ويُترجم عملياً بشكل كامل .
ومِن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآيةبشكل قاطعأنَّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحنُ: ( ونزَّلناه تنزيلا ) .
إِنَّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ،وهو أساس الإِسلام ودليل لجميع البشر ،والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ،لذلك فإِنَّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دُفعة واحدة على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) يُجاب عليها مِن خلال النقاط الآتية:
أوّلا: بالرغم مِن أنَّ القرآن هو كتاب ،إِلاَّ أنَّهُ ليسَ ككتب الإِنسان المؤَلَّفة حيثُ يجلس المُؤَلَّف ويفكِّر ويكتب موضوعاً ،ثمّ ينظِّم فصول الكتاب وأبوابه لِينتهي مِن تحرير الكتاب ،بل القرآن لهُ ارتباط دقيق بعصره ،أي ارتباط ب ( 23 ) سنة ،هي عصر نبوة نبي الإِسلام بكل ما كانت تتمخض بهِ مِن حوادث وقضايا .
لذا كيف يُمكن لكتاب يتحدث عن حوادث ( 23 ) سنة متزامناً لها أن ينزل في يوم واحد ؟
هل يُمكن جمع حوادث ( 23 ) سنة نفسها في يوم واحد ،حتى ينزل القرآن في يوم واحد ؟
إِنَّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإِسلامية ،وآيات تختص بالمُنافقين ،وأُخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) .فهل يُمكن أن يُكتب مجموع كل ذلك مُنذ اليوم الأوّل ؟
ثانياً: ليس القرآن كتاباً ذا طابع تعليمي وحسب ،بل ينبغي لكل آية فيه أن تُنفَّذ بعدَ نزولها ،فإِذا كانَ القرآن قد نَزَل مرَّة واحدة ،فينبغي أن يتمّ العمل بهِ مرّةً واحدة أيضاً ،ونعلم بأنَّ هذا مُحال ،لأنَّ إِصلاح مُجتمع مَليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ،إِذ لا يمكن إِرسال الطفل الأمي دفعة واحدة مِن الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد .لهذا السبب نزل القرآن نجوماًأي بشكل تدريجيكي ينفذ بشكل جيِّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتَمثُله عملياً .
ثالثاً: بدون شك ،إِنَّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإِمكانيات أكبر عِندما يقوم بتطبيق القرآن جزءاً جزءاً ،بدلا مِن تنفيذه دفعة واحدة .صحيح أنَّهُ مُرسَل مِن الخالق وذو عقل واستعداد كبيرَيْن ليسَ لهما مثيل ،إِلاَّ أنَّهُ برغم ذلك فإِنَّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة .
رابعاً: النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع مصدر الوحي ،إِلاَّ أنَّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )الارتباط بمصدر الوحي لأكثر مِن مَرَّة واحدة .
آخر الآية ( 32 ) مِن سورة الفرقان تقول: ( كذلك لِنثبّت بهِ فؤادك ورتلناه ترتيلا ) وهي إِشارة إلى السبب الثّالث ،بينما الآية التي نبحثها تِشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها .ولكن الحصيلة أنَّ مجموع هذه العوامل تَكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن .