التّفسير
القرآن وصفة للشفاء
الآية التي نبحثها الآن تُشير إلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: ( وننزل مِن القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) أمّا الظالمون فإِنّهم بدلا مِن أن يستفيدوا مِن هذا الكتاب العظيم ،فإِنَّهمُ يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان ( ولا يزيد الظالمين إِلاَّ خساراً ) .
بحوث
1مفهوم كلمة ( مِن ) في ( من القرآن )
نعرف أنَّ كلمة ( مِن ) في مثل هذه الموارد تأتي للتبعيض ،إِلاَّ أنَّ الشفاء والرحمة لا تخص قسماً من القرآن ،بل هي صفة لكل آياته ،لذا فإِنَّ كبار المفسّرين يميلون إلى اعتبار ( مِن ) هُنا بيانية .ولكن البعض احتمل أن تكون تبعيضية كذلك ،وهي بذلك تشير إلى النزول التدريجي للقرآنخاصّة وأنّ ( ننزل ) فعل مضارعلذا فإنّ معنى الجملة يكون: ( إِنّنا ننزل القرآن وكل قسم ينزل منهُ ،هو بحدِّ ذاته ولوحده يُعتبر شفاءً ورحمة ) ( فتدبرّ جيداً ) .
2الفرق بين الشّفاء والرّحمة
إِنَّ ( الشفاء ) هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص ،لذا فإِنّ أوّل عمل يقوم بهِ القرآن في وجود الإِنسان هو تطهيره مِن أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية مِنها والجماعية .
ثمّ تأتي بعدها مرحلة ( الرحمة ) وهي مرحلة التخلُّق بأخلاق الله ،وتفتّح براعم الفضائل الإِنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية .
بعبارة أُخرى: إِنّ الشفاء إِشارة إلى ( التطهير ) و( الرحمة ) إِشارة إلى ( البناء الجديد ) .أو بتعبير الفلاسفة والعارفين ،فإِنَّ الأُولى تشير إلى مقام ( التخلية ) بينما الثّانية تشير إلى مقام ( التحلية ) .
3الظّالمون ونصيبهم من القرآن
ليس في هذه الآية القرآنية وحسب ،بل في الكثير مِن الآيات الأُخرى ،نقرأ أنَّ الظالمين يزداد جهلهم وبؤس حالهم ،بدل الاستفادة مِن نور الآيات الإِلهية !!
إِنّ ذلك يعود إلى أنَّ وجودهم قائم بالأساس على قواعد الكفر والظلم والنفاق ،لذلك فإِنّهم أين ما يجدون الحق يحاربونه ،وهذه الحرب للحق وأهله تزيد فى بؤسهم وتقوي روح الطغيان والتمرُّد عِندهم .
فإِذا أعطينامثلاوجبة طعام مُتكاملة لعالم مجاهد ،فإِنَّهُ سيستفيد مِن تلك الطاقة لأجل التربية والتعليم والجهاد في طريق الحق ،أمّا إِذا أعطينا نفس وجبة الطعام هذه إلى شخص ظالم ،فأنَّهُ سيستفيد مِن هذه الطاقة في تموين قدرة الظلم
لديه أكثر ،وهذا المثال يكشف عن أنَّهُ لا يوجد اختلاف في المادة الإِلهية نفسها ( المعنى هنا القرآن الكريم ) بل الاختلاف في أمزجة وأفكار واستعداد الإِنسان المتلقي .
فالآيات القرآنية طبقاً للمثال ،هي كقطرات الماء التي تكون سبباً في إِنبات الورود في البساتين ،بينما تنبت الأشواك في الأرض السبخة .
ولهذا السبب ينبغي أن تتهيأ مسبقاً الأرضية حتى تتم الاستفادة مِن القرآن ،إِضافة إلى أنَّ فاعلية الفاعل يُشترط فيها قابلية المحل كما يصطلح .
وهنا تتّضح الإِجابة على السؤال الذي يقول: كيف لا يهدي القرآن أمثال هؤلاء الأشخاص في حين أنَّهُ كتاب هداية ؟إِذ لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين ،ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق ،ويكونوا في مستوى قبوله والإِذعان له .أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإِنَّهُ يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن ،ولذلك لا يستفيدون مِن القرآن ،بل يزداد عنادهم وكفرهم ،لأنّ تكرار الذنب يكرس في روح الإِنسان حالة الكفر والعناد .
4القرآن دواء ناجع لكل الأمراض الاجتماعية والأخلاقية
إِنَّ الأمراض الروحية والأخلاقية لها شبه كبير بالأمراض الجسمية للإِنسان ،فالاثنان يقتلان ،والاثنان يحتاجان إلى طبيب وعلاج ووقاية ،والاثنان قد يسريان للآخرين ،ويجب في كل منهما معرفة الأسباب الرئيسة ثمّ معالجتها .
وفي كل منهما قد يصل الحال بالمصاب إلى عدم إمكانية العلاج ،ولكن في أكثر الأحيان يتم علاجها والشفاء منها ،إِلاَّ أنَّ العلاج قد لا ينفع في أحيان أُخرى .
إِنَّهُ شبهُ جميل وذو معاني مُتعدِّدة ؛فالقرآن يُعتبر وصفة شفاء للذين يريدون محاربة الجهل والكبر والغرور والحسد والنفاق ...القرآن وصفة شفاء لمعالجة الضعف والذّلة والخوف والاختلاف والفرقة .وكتاب الله الأعظم وصفة شفاء للذين يئنّون مِن مرض حبّ الدنيا والارتباط بالمادة والشهوة .والقرآن وصفة شفاء لهذه الدنيا التي تشتعل فيها النيران في كل زاوية ،وتئن مِن وطأة السباق في تطوير الأسلحة المدمرة وخزنها ،حيثُ وضعت رأسمالها الاقتصادي والإِنساني في خدمة الحرب وتجارة السلاح .
وأخيراً فإنَّ كتاب الله وصفة شفاء لإِزالة حُجب الشهوات المظلمة التي تمنع مِن التقرب نحو الخالق عزَّ وجلّ .
نقرأ في الآية ( 57 ) مِن سوره يونس قوله تعالى: ( قد جاءتكم موعظة مِن ربّكم وشفاء لما في الصدور ) .
وفي الآية ( 44 ) مِن سورة فصِّلت نقرأ قوله تعالى: ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) .
ولإِمام المتقين علي بن أبي طالب( عليه السلام ) قول جامع في هذا المجال ،حيث يقول( عليه السلام ) في نهج البلاغة: «فاستشفوه مِن أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم ،فإِنَّ فيه شفاء مِن أكبر الداء ،وهو الكفر والنفاق والغي والضلال »{[2235]} .
وفي مكان آخر نقرأ لإمام المتقين علي( عليه السلام ) قوله واصفاً كتاب الله: «ألا إِنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي وَدواء دائكم وَنظم ما بينكم »{[2236]} .
وَفي مقطع آخر يَضُمُّهُ نهج علي( عليه السلام ) ،نقرأ وصفاً لكتاب الله يقول فيه( عليه السلام ): «وعليكم بكتاب الله فإِنَّهُ الحبل المتين ،والنور المبين ،والشفاء النافع ،والري الناقع ،والعصمة للمتمسك ،والنجاة للمتعلق ،لا يعوج فيقام ،ولا يزيغ فيستعتب ،ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع ،مَن قالَ بِهِ صدق ،وَمَن عمل به سبق »{[2237]} .
هذه التعابير العظيمة والبليغة ،والتي نجد لها أشباهاً كثيرة في أقوال النّبي الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي كلمات الإِمام علي( عليه السلام ) الأُخرى والأئمّة الصادقين( عليهم السلام ) ،هي دليل يُثبت بدقة ووضوح أنَّ القرآن وصفة لمعالجة كل المشاكل والصعوبات والأمراض ،ولشفاء الفرد والمجتمع مِن أشكال الأمراض الأخلاقية والاجتماعية .
إِنَّ أفضل دليل لإِثبات هذه الحقيقة هي مقايسة وضع العرب في الجاهلية مع وضع الذين تربوا في مدرسة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مطلع الإِسلام .إِنَّ المقايسة بين الوضعين ترينا كيف أنَّ أُولئك القوم المتعطشون للدماء ،والمصابون بأنواع الأمراض الاجتماعية والأخلاقية ،قد تمّ شفاؤهم ممّا هم فيه بالهداية القرآنية ،وأصبحوا برحمة كتاب الله مِن القوّة والعظمة بحيث أنَّ القوى السياسية المستكبرة آنذاك خضعت لهم أعنّتها ،وذلت لهم رقابها .
وهذه هي نفس الحقيقة التي تناساها مسلمو اليوم ،وأصبحوا على ما هم عليه مِن واقع بائس مرير غارق بالأمراض والمشاكل ...إِنَّ الفرقة قد اشتدت بينهم ،والناهبين سيطروا على مقدراتهم وثرواتهم ،مستقبلهم أصبح رهينة بيد الآخرين بعد أن أصيبوا بالضعف والهوان بسبب الارتباط بالقوى الدولية والتبعية الذليلة لها .
وهذه هي عاقبة من يستجدي دواء علّته من الآخرين الذين هم أسوأ حالا منه ،في حين أن الآخرين ،ليأخذ مِنهم علاج الدواء حاضر بين يديه وموجود في مَنزله !
القرآن لا يشفي من الأمراض وحسب ،بل إِنّهُ يساعد المرضى على تجاوز دور النقاهة إلى مرحلة القوّة والنشاط والانطلاق ،حيثُ تكون ( الرحمة ) مرحلة لاحقة لمرحلة ( الشفاء ) .
الظريف في الأمر أنَّ الأدوية التي تستخدم لشفاء الإِنسان لها نتائج وتأثيرات عرضية حتمية لا يمكن توقيها أو الفرار مِنها ،حتى أنَّ الحديث المأثور يقول: «ما مِن دَواء إِلاَّ ويهيج داء »{[2238]} .
أمّا هذا الدواء الشافي ،كتاب الله الأعظم ،فليست لهُ أي آثار عرضية على الروح والأفكار الإِنسانية ،بل على عكس ذلك كله خير وبركة ورحمة .
وفي واحدة مِن عبارات نهج البلاغة نقرأ في وصف هذا المعنى قول علي( عليه السلام ): «شفاء لا تخشى أسقامه » واصفاً بذلك القرآن الكريم{[2239]} .
يكفي أن نتعهد باتباع هذه الوصفة لمدّة شهر ،نطيع الأوامر في مجالات العلم والوعي والعدل والتقوى والصدق وبذل النفس والجهاد ...عندها سنرى كيف ستُحل مشاكلنا بسرعة .
وأخيراً ينبغي القول: إِنَّ الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأُخرى ،لا يمكن أن تعطي ثمارها وأكلها مِن دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقة ،وإِلاَّ فإِنَّ قراءة وصفة الدواء مائة مرَّة لا تغني عن العمل بها شيئاً !!