سبب النّزول
عن ابن عباس قال: «قالت اليهود لما قال لهم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا ) قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة وَمَن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ؟فنزل قوله تعالى: ( قل لو كانَ البحر مِداداً لكلمات ربّي لنفد البحر ) .
وقيل أيضاً: قالت اليهود: إِنّك أوتيت الحكمة ،ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ،ثمّ زعمتوالمخاطب هنا رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )أنّك لا علم لك بالروح ؟فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأنّي وإِن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة »{[2327]} .
التّفسير
الذين يأملون لقاء الله:
الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلا ،إِلاَّ أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة ،حيثُ أنَّ كل قصة مِن القصص الثلاث الواردة في السورة ،تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة ،وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الإِطلاع على قصّة أصحاب الكهف ،وموسى والخضر ،وذي القرنين ،يعتبر لا شيء إِزاء علم الله غير المحدود ،لأنَّ علمهُ سبحانه وتعالى ومعرفتهُ تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل .
القرآن الكريم يخاطب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أوّل آية نبحثها بقوله: ( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثلهُ مدداً ) .
«مداد » تعني الحبر ،أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة ،وهي في الأصل مأخوذة مِن «مدَّ » بمعنى السحب ،حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم{[2328]} .
( كلمات ) جمع كلمة ،وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها ،أو بعبارة أُخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى ،وبما أنَّ كل موجود مِن موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق ،لذا فإِنَّهُ يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم ( كلمة الله ) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة .،
فبالنسبة للمسيح عيسى( عليه السلام ) يقول القرآن الكريم: ( إِنّما المسيحُ عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ){[2329]} .
وفي الآية التي نبحثها فإِنَّ ( كلمة ) قد استخدمت بهذا المعنى ،أي إِشارة إلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى .
وفي الحقيقة إِن القرآن يُلفت أنظارنا في هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي: لا تظنّوا أنَّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه ،بل هو على قدر مِن السعة والعظمة بحيث لو أنَّ البحار تتحول إلى حبر ،وتكتب صفاته وخصائصه ،فإِنّهاأي البحارستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود .
ومِن الضروري الالتفات هنا إلى أنَّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة ( مثل ) في قوله: ( ولو جئنا بمثله مدداً ) فإنّه يراد بها الجنس أيضاً ،وهذه إِشارة إلى أنّنا مهما أضفنا مِن أمثال هذه البحار إِليها فإِنَّ الكلمات الإِلهية لا تنتهيولا تنفد .
ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية ( 27 ): ( ولو أنَّ ما في الأرض مِن شجرة أقلام والبحر يمده مِن بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) .يعني أنَّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة ،ومع ذلك فإِنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي .
وينبغي الانتباه هنا إلى أنَّ الآية أعلاه في الوقت الذي تُجسِّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل ،فإِنّها تُوَضِّحأيضاًالعلم المطلق وغير المحدود للخالق جلَّ وعلا ،لأنّنا نعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود ،وبما سيكون موجوداً .وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علماً حضورياً » فإِنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات .( فدقق في ذلك ) .
إِذن نستطيع أن نقول: لو أنَّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إلى حبر ومداد ،ولو أنَّ كافة الأشجار تحولت إلى أقلام ،فإِنَّ ذلك كُلّه لا يستطيع الإِحاطة بما موجود في عالم الخالق جلَّ وعلا .
توضيح لمفهوم اللانهاية:
يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى ،ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إلى أفكارنا .وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحاً بليغاً للغاية ،وذكر أرقاماً حيَّة وذات روح .
تُرى هل هناك أعداد حيَّة وأُخرى ميتة ؟
نعم ،ففي الرياضيات إِذا وُضعت الأصفار إلى يمين العدد الصحيح فهيلا تعبِّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسِّد عظمة شيء معين .
الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنَّ العدد الواحد ( كرقم واحد مثلا ) لو وضع أمامهُ مِن الجهة اليمنى أصفاراً بطول كيلومتر واحد ،فسيكون عدد عظيم جدّاً ومحيِّر ولا يمكن تصوّر عظمته ،ولكن لمن ؟للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم .
العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به ،ويجسِّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة .
والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار ،يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إلى أقلام ،وكل البحار إلى مواد وحبر ،فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي ،ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود ،هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى .
فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم ،ثمّ ما هو عدد الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة ؟
ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة ،ولنا أن نتصوّر الكمية من الأقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها !
من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة ،ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد ،فبحيرة واحدة ،فبحر واحد ،فمحيط ،ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها !
إِنَّ الحصيلةبلا شكستكون رقماً عجيباً وخيالياً !!
وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم ( سبع ) ليسَ للتحديد ،بل هو إِشارة للكثرة ،ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار ،فإِنَّ كلمات الله لا تنفد .
والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد ،والشاهد الحي الذي يبعث اليقظة في روح الإِنسان ،ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية !
إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين .
نعم ،إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد .
علم غير محدود ولا مُتناهي .
علم يشمل كل الوجود ،سابقاً وحاضراً ومستقبلا ،وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق !