بعد هذا الكلام والعهد الجديد: ( فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ) .
لا ريب ،إِنَّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنَّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة ،لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة ( ويحتمل أنَّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى درساً بليغاً آخر ) .
ويجب أن نلتفت إلى أنَّ ( قرية ) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام ،وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة ،أمّا المقصود مِنها في الآية فهو المدينة لا القرية ،كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة .
وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنَّ المقصود بهذه المدينة ،هو ( أنطاكية ){[2308]} .
وذكر آخرون: إِنَّ المقصود مِنها هو مدينة «أيلة » التي تسمى اليوم ميناء ( أيلات ) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة .أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة ( الناصرة ) الواقعة شمال فلسطين ،وهي محل ولادة السيّد المسيح( عليه السلام ) .وقد نقل العلاّمة الطبرسي حديثاً عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) يدعم صحة هذا الاحتمال .
ورجوعاً إلى ما قلناه في المقصود مِن ( مجمع البحرين ) إِذ قلنا: إِنَّهُ كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس ،يتّضح أنَّ مدينة ( الناصرة ) أو ميناء ( أيلة ) أقرب إلى هذا المكان من انطاكية .
المهم في الأمر ،أنّنا نستنتج مِن خلال ما جرى لموسى( عليه السلام ) وصاحبه مِن أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة ،لذا نقرأ في رواية عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله في وصف أهل هذه المدينة: «كانوا أهل قرية لئام »{[2309]} .
ثمّ يضيف القرآن: ( فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه ){[2310]} وقد كان موسى( عليه السلام ) يشعر بالتعب والجوع ،والأهم مِن ذلك أنَّهُ كان يشعر بأنَّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت مِن أهل هذه القرية التي أبت أن تضيفهما ؛ومِن جانب آخر شاهد كيف أنَّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم مِن سلوك أهل القرية القبيح إِزاءهما ،وكأنَّهُ بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة ؛وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدّا طعاماً لهما .
لذا فقد نسي موسى( عليه السلام ) عهده مرّة أُخرى وبدأ بالإِعتراض ،إِلاَّ أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً فقال: ( قال لو شئت لاتّخذت عليه أجراً ) .
وفي الواقع فإِنَّ موسى يعتقد بأنَّ قيام الإِنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة ؛بعبارة أُخرى: إِنَّ الجميل جيِّد وحسن ،بشرط أن يكون في محلّه .
صحيح أنَّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو مِن صفات الناس الإِلهيين ،إِلاَّ أنَّ ذلك ينبغي أن لا يكون سبباً في دفع المسيئين للقيام بالمزيد مِن الأعمال السيئة .