التّفسير
يوم تطوى السّماء !
قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه ،وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم ،وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب ،فتقول: ( يوم نطوي السّماء كطي السجل للكتب ){[2574]} .
لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقاً كالطومار لكتابة الرسائل والكتب ،وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة ،ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّاً ويكتب عليه ما يريد كتابته ،ثمّ يُطوى بعد الانتهاء من الكتابة ويضعونه جانباً ،ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضاً على هيئة الطومار ،وكان هذا الطومار يسمّى سجلا ،إذ كان يستفاد منه للكتابة .
وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا ،ففي الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح ،وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه ،وكلّ منها في مكان معيّن ،أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه .
طبعاً ،لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض ،بل يعني تحطّمه وجمعه ،وبتعبير آخر: فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض ،لكنلا تفنى مواده ،وهذه الحقيقة تستفاد من العبيرات المختلفة في آيات المعاد ،وخاصةً من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة ،ومن القبور .
ثمّ تضيف ( كما بدأنا أوّل خلق نعيده ) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية ( 29 ) من سورة الأعراف: ( كما بدأكم تعودون ) أو أنّه مثل تعبير ( وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه ){[2575]} .{[2576]}
أمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم ،أو التلاحم والارتباط كما في بداية الخلق ،فيبدو بعيداً جدّاً .
وفي النهاية تقول الآية: ( وعداً{[2577]} علينا إنّا كنّا فاعلين ){[2578]} .
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأُولى ،هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أُخرى كما كانوا في بداية الخلق .ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه ،بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأُولى{[2579]} .
وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضاً ،وهي: إنّ «الكرب » في اللغة تعني الغمّ الشديد ،وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها ،لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان ،ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه .
وأيُّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحقّ ( 950 ) عاماً ،كما صرّح القرآن بذلك ،لكن لم يؤمن به خلال هذه المدّة الطويلة إلاّ ثمانون شخصاً على المشهور بين المفسّرين ،وأمّا عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية والاستهزاء والأذى .
وتضيف الآية التالية: ( ونصرناه{[2580]} من القوم الذين كذّبوا بآياتنا إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ) إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة أُخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهيّة لا تتّصف بصفة الانتقام مطلقاً ،بل هي على أساس انتخاب الأصلح ،أي إنّ حقّ الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لاُناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله ،أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الانحراف انتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب .أمّا اُولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقاً في صلاحهم في المستقبل ،فلا مصير ولا جزاء لهم إلاّ الموت والفناء .
ملاحظة
الجدير بالذكر أنّ هذه السورة ذكرت آنفاً قصة «إبراهيم » و «لوط » وكذلك سوف تذكر قصتي «أيّوب » و «يونس » ،وقد ذكرت آنفاً قصّة نوح ( عليه السلام ) وفي جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء .
وكأنّ منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من الكروب ،ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وأملا للمؤمنين ،وبملاحظة أنّ هذه السورة مكّية ،وأنّ المسلمين كانوا حينئذ في شدّة وكرب فستتجلّى أهميّة هذا الموضوع أكثر ...