/م75
ثمّ يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة ،فيقول عزّ من قائل: ( وجاهدوا في سبيل الله ) .
ومعظم المفسّرين لم يخصّوا هذه الآية بالجهاد المسلّح لأعداء الله ،بل فسّروها بما هي عليه من معنىً لغوي عامّ ،بكلّ نوع من الجهاد في سبيل الله والإستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس ( الجهاد الأكبر ) وجهاد الأعداء والظلمة ( الجهاد الأصغر ) .
نقل العلاّمة الطبرسي ( رحمه الله ) في «مجمع البيان » عن معظم المفسّرين قولهم: إنّ القصد من «حق الجهاد » الإخلاص في النيّة والقيام بالأعمال لله خالصة .ولا شكّ في أنّ حقّ الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها ،ولكن مرحلة «الإخلاص في النيّة » هي أصعب مرحلة في جهاد النفس ،لهذا أكّدتها الآية ،لأنّ عباد الله المخلصين فقط هم الذين لا تنفذ إلى قلوبهم وأعمالهم الوساوس الشيطانية ،رغم قوّة نفاذها وخفائها .
والقرآن المجيد يبدأ تعليماته الخمسة من الخاصّ إلى العامّ ،فبدأ بالركوع فالسجود ،وانتهى بالعبادة بمعناها العامّ الذي يشمل أعمال الخير والطاعات والعبادات وغيرها .وفي آخر مرحلة تحدّث عن الجهاد والمساعي الفرديّة والجماعية باطناً وظاهراً ،في القول والعمل ،وفي الأخلاق والنيّة .
والإستجابة لهذه التعليمات الربّانية مدعاة للفلاح .
ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمّل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات والتعليمات الشاملة الوسعة ؟ولهذا تجيب بقيّة الآية الشريفة ضمناً عن هذه الإستفهامات ،وانّ هذه التعليمات دليل الألطاف الإلهيّة التي منّها سبحانه وتعالى على المؤمنين لتدلّ على منزلتهم العظيمة عنده سبحانه .فتقول الآيّة أوّلا: ( هو إجتباكم ) .
أي حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه .
والعبارة الأخرى قوله جلّ وعلا: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) أي إذا دقّقتم جيداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم الله عليها ،وهي الطريق إلى تكاملكم ،وهي ألذّ من الشهد ،لأنّ كلّ واحدة منها له غاية ومنافع تعود عليكم .
وثالث عبارة ( ملّة أبيكم إبراهيم ) إنّ إطلاق كلمة «الأب » على «إبراهيم »( عليه السلام ) ،إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل ( عليه السلام )غالباً ،وإمّا لكون إبراهيم ( عليه السلام ) هو الأب الروحي للموحّدين جميعاً على الرغم من خلط المشركين دينه الحنيف بأنواع من الخرافات الجاهلية آنذاك .
ويليها تعبير ( هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة ،وفي هذا الكتاب السماوي أيضاً ( القرآن ) ،وإنّ المسلم ليفتخر بأنّه قد أسلم نفسه لله في جميع أوامره ونواهيه .
وقد اختلف المفسّرون لمن يعود ضمير ( هو ) في العبارة السابقة ،فقال البعض منهم: إنّه يعود إلى الله تعالى ،أي إنّ الله سمّاكم في الكتب السماوية السابقة والقرآن بهذا الإسم الذي هو موضع فخركم ،ويرى آخرون أنّ ضمير ( هو ) يعود إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ويستدلّون بالآية ( 128 ) من سورة البقرة حيث نادى إبراهيم ( عليه السلام )ربّه بعد إتمامه بناء الكعبة قائلا: ( ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا اُمّة مسلمة لك ) .
ونحن نرى أنّ التّفسير الأوّل أصوب ،لأنّه ينسجم مع آخر الآية ذاتها حيث يقول: ( هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة والقرآن المجيد ،وهذا القول يناسب الله عزّ وجلّ ولا يناسب إبراهيم ( عليه السلام ){[2671]} .
وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للاُمم الأخرى هي قوله المبارك: ( ليكون الرّسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) .
و «الشهيد » هو الشاهد ،وهي كلمة مشتقّة من شهود ،بمعنى إطلاع المرء على أمر أو حدث شهده بنفسه .وكون الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال اُمّته ،وينسجم هذا المفهوم مع حديث ( عرض الأعمال ) وبعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك ،حيث تعرض أعمال اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليه في نهاية كل اسبوع فتطلع روحه الطاهرة عليها جميعاً ،فهو شاهد على اُمّته .وذكرت بعض الأحاديث أنّ معصومي هذه الاُمّة الأئمّة الطاهرين ( عليهم السلام ) هم أيضاً شهود على أعمال الناس ،نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام )قوله: «نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله وأعلامه في بريته »{[2672]} .
في الحقيقة إنّ المخاطب في عبارة «لتكونوا » وحسب ظاهر الكلمة هو الاُمّة جميعاً ،وقد يكون المراد قادة هذه الاُمّة ،فمخاطبة الكلّ وإرادة الجزء أمر متعارف في المحادثة اليومية .ومثال ذلك ما جاء في الآية ( 20 ) من سورة المائدة ( وجعلكم ملوكاً ) .حيث نعلم أنّ عدداً قليلا منهم أصبحوا ملوكاً .
وهناك معنى آخر لكلمة شهود ،هي «الشهادة العمليّة » أي كون أعمال الفرد انموذجاً للآخرين وقدوة لهم ،وهكذا يكون جميع المسلمين الحقيقيين شهوداً ،لأنّهم اُمّة تقتدي بهم الاُمم بما لديهم من دين يمكنهم أن يكونوا مقياساً للسمو والفضل بين جميع الاُمم .
وجاء في حديث عن الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إذا بعث الله نبيّاً جعله شهيداً على قومه ،وإنّ الله تبارك وتعالى جعل اُمّتي شهداء على الخلق ،حيث يقول: ليكون الرّسول شهيداً عليكم ،وتكونوا شهداء على الناس »{[2673]} .
أي كما يكون النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قدوة واُسوة حسنة لاُمّته ،تكونون أنتم أيضاً اُسوة وقدوة للناس ،وهذا التّفسير لا يناقض الحديث السابق فجميع الاُمّة شهداء ،والأئمّة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الاُمّة{[2674]} .
وإعادة الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) فانّ الله هو قائدكم وناصركم ومعينكم: ( هو مولاكم ) و ( فنعم المولى ونعم النصير ) .
والحقيقة أنّ جملة ( فنعم المولى ونعم النصير ) دليل على عبارة ( واعتصموا بالله هو مولاكم ) أي إنّ الله أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان .