التّفسير
الدعوة إلى التقوى:
في الآية الأُولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للإتحاد والتآخي .
وفي الحقيقة إن الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والإعتقادية ،دعوة قليلة الأثر ،إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة ،ولهذا يركز الإهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف ،وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى ،ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ) .
يبقى ان نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى ( حق تقاته ) ولكن ممّا لا شكّ فيه أن «حق التقوى » يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كلّ إثم ومعصية ،وكلّ تجاوز وعدوان ،وانحراف عن الحقّ .
ولذا نقل عن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما في تفسير الدرّ المنثور ،وعن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبارفي تفسير قوله: ( حق تقاته ) أنهما قالا: «أن يطاع فلا يعصى ،ويذكر فلا ينسى ( ويشكر فلا يكفر ) » .
ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية ،يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حقّ التقوى وأسمى درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأخرى ممّا لا أساس له مطلقاً ،ولا داعي له أبداً .
على أنه ليس من شكّ في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصاًفي الحقيقةلمفاد
الآية الأُولى وتقييداً بالاستطاعة والقدرة ،وحيث إن لفظة النسخ كانتعند القدماءتطلق على التخصيص ،لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل بأن الآية الثانية ناسخة للأُولى هو كونها مخصصة للأُولى لا غير .
ثمّ إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى انتهت الآية بما يعتبر تحذيراًفي حقيقتهللأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم ،تحذيراً مفاده: أن مجرد اعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي ،إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته ،فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو بالإنسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء ،والضغائن المندثرة فتكون عاقبته الخسران ،وضياع كلّ شيء ولهذا قال سبحانه ( ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون ) .