الفرقة بعد الإتحاد من شيم النصارى واليهود:
تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أخرى ،ولذا يذكر بأهمية الإتحاد ،ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة ،بقوله ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) .
إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعواكالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارىسبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها ،فيكسبوا بذلك العذاب الأليم .
إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي ،ويتأملوا في حياة السابقين ،وما آلوا إليه من المصير المؤلم ،بسبب الاختلاف والتشتت .
إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أُمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق ،وتفرقت بعد ما توحدت ،وتشتّتت بعد ما تجمعت .
إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على اجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلاً ،لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلاَّ وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل .
ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها ،بصراحة إذ قال:
«إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة ،وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة ،وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة »{[641]} .
والظاهر أن عدد ( 70 ) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري ،لا عدد إحصائي ،فالرواية تعني أن فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية ،وفرقاً كثيرة في النار ،وهكذا الحال في المسلمين وربّما يزداد عدد اختلافات المسلمين على ذلك .
ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الاختلاف والفرقة ،والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلاَّ طريقاً واحداً ،والانحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية ،بل ويذهب المسلمونفي هذا الاختلافإلى حد تكفير بعضهم بعضاً ،وشهر السيوف ،والتلاعن والتشاتم ،وهدر النفوس ،واستحلال الدماء والأموال ،بل ويبلغ الاختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار ،وإلى مقاتلة الأخ أخاه .
وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والاختلاف والتشرذم والتمزق ،وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية ،وتحلّ الذلة محل العزّة ،والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية ،وينتهي المجد العظيم .
أجل إن الذين يسلكون سبيل الاختلاف بعد الوحدة ،والفرقة بعد الإتحاد سيكون لهم عذاب أليم .
( أولئك لهم عذاب عظيم ) .
إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والانكسار ،فذلك هو سر سقوط الأُمم وذلتها ،إنه الاختلاف والتشتت ،والنفاق والتدابر .
إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة ،وتفتت تماسكه بسبب الاختلاف ،سيتعرضلا محالةلغزو الطامعين ،وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين ،بل ومسرحاً لتجاوزاتهم ،وما أشد هذا العذاب ،وما أقسى هذه العاقبة ؟أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا .
وأما عذاب الآخرة فهوكما وصفه الله تعالى في القرآن الكريمأشد وأخزى .فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين ،وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الاتفاق ،والتدابر على التآلف ،والتشتت على الاجتماع ...خزي في الدنيا ،وعذاب أخزى في الآخرة .