سبب النّزول
جمع من أحبار اليهود وعلمائهم مثل «أبي رافع » و «حي بن أخطب » و«كعب بن أشرف » حين لاحظوا أنّ مراكزهم الاجتماعية بين اليهود معرّضة للخطر ،عمدوا إلى العلامات الموجودة في التوراة بشأن خاتم الأنبياء والتي كانوا هم أنفسهم قد دوّنوها بأيديهم في نسخ التوراة ،فحرّفوها وأقسموا على أنّ تلك الكتابات المحرّفة من الله .لذلك نزلت هذه الآية وفيها إنذار شديد لهم .
وهناك مفسّرون آخرون ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في «أشعث بن قيس » الذي كان يريد استملاك أرض لغيره عن طريق الكذب والتزوير .وعندما تهيّأ لأداء اليمين لتوثيق ادّعائه نزلت الآية ،فاستولى الخوف على أشعث واعترف بالحقّ وأعاد الأرض لصاحبها .
التّفسير
المحرفون للحقائق:
تشير الآية إلى جانب آخر من آثام اليهود وأهل الكتاب .ولكونها وردت بصيغة عامّة ،فإنّها تشمل كلّ من تنطبق عليه هذه الصفات .
تقول الآية: ( إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ) أي الذين يجعلون عهودهم مع الله والقسم باسمه المقدّس موضع بيع وشراء لقاء مبالغ مادّية ،سيكون جزاءهم خمس عقوبات:
أحدها: أنّهم سوف يُحرمون من نِعم الله التي لا نهاية لها في الآخرة ( أُولئك لا خلاق{[604]}لهم ) .
ثمّ إنّ الله يوم القيامة يكلّم المؤمنين ولكنّه لا يكلّم أمثال هؤلاء ( ولا يكلّمهم الله ) .
كما إنّ الله سوف لا ينظر إليهم بنظر الرحمة واللطف يوم القيامة ( ولا ينظر إليهم يوم القيامة ) .ومن ذلك يعلم أن الله تعالى في ذلك اليوم يتكلم مع عباده المؤمنين ( سواء مباشرة أو بتوسط الملائكة ) ممّا يجلب لهم السرور والفرح ويكون دليلاً على عنايته بهم ورعايته لهم ،وكذلك النظر إليهم ،فهو إشارة إلى العناية الخاصّة بهم ،وليس المقصود النظر الجسماني كما توهم بعض الجهلاء .
أمّا الأشخاص الذين باعوا آيات الله بثمن مادي فلا يشملهم الله تعالى بعنايته ،ولا بمحادثته .
ولا يطهرهم من ذنوبهم ( ولا يزكّيهم ) .
وأخيراً سيعذّبهم عذاباً شديداً ( ولهم عذاب أليم ) .
وليس المقصود من «الثمن القليل » أن الإنسان إذا باع العهد الإلهي بثمن كثير فيجوز له ذلك ،بل المقصود أي ثمن مادّي يعطى مقابل ارتكاب هذه الذنوب الكبيرة ،حتّى وإن كان هذا الثمن يتمثّل في رئاسات كبيرة وواسعة ،فهي مع ذلك قليلة .
بديهيّ أنّ كلام الله ليس نطق اللسان ،لأنّ الله منزّه عن التجسّد ،إنّما الكلام عن طريق الإلهام القلبي ،أو عن طريق إحداث أمواج صوتية في الفضاء ،كالكلام الذي سمعه موسى ( عليه السلام ) من شجرة الطور .
ملاحظة
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه العواقب الخمس المترتّبة على «نقض العهد » و «الأيمان الكاذبة » المذكورة في هذه الآية ربّما تكون إشارة إلى مراحل «القرب والبعد » من الله .
إنّ من يقترب من الله ويدنو من ساحة قربه تشمله مجموعة من النِعم الإلهيّة المعنوية ،فإذا ازداد اقتراباً كلّمه الله ،وإن دنا أكثر نظر إليه الله نظرة الرحمة ،وإن اقترب أكثر طهّره الله من آثار ذنوبه ،وأخيراً ينجو من العذاب الأليم وتغمره نِعم الله ،أمّا الذين يسيرون في طريق نقض العهود واستغلال اسم الله بشكل غير مشروع ،فيحرمون من كلّ تلك النِعم ويتراجعون مرحلة بعد مرحلة .
في تفسير الآية 174 من سورة البقرة ،المشابهة لهذه الآية ،شرح أوفى للموضوع .