( ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرُسون ) .
«الربّاني » هو الذي أحكم ارتباطه بالله .ولمّا كانت الكلمة مشتقّة من «ربّ » فهي تطلق أيضاً على من يقوم بتربية الآخرين وتدبير أُمورهم وإصلاحهم .
وعلى هذا يكون المراد من هذه الآية: إنّ هذا العمل ( دعوة الأنبياء الناس إلى عبادتهم ) لا يليق بهم ،إنّ ما يليق بهم هو أن يجعلوا الناس علماء إلهيّين في ضوء تعليم آيات الله وتدريس حقائق الدين ،ويصيّروا منهم أفراداً لا يعبدون غير الله ولا يدعون إلاَّ إلى العلم والمعرفة .
يتّضح من ذلك أنّ هدف الأنبياء لم يكن تربية الناس فحسب ،بل استهدفوا أكثر من ذلك تربية المعلّمين والمربّين وقادة الجماعة ،أي تربية أفراد يستطيع كلّ منهم أن يضيء بعلمه وإيمانه ومعرفته محيطاً واسعاً من حوله .
تبدأ الآية بذكر «التعليم » أوّلاً ثمّ «التدريس » .تختلف الكلمتان من حيث اتّساع المعنى ،فالتعليم أوسع ويشمل كلّ أنواع التعليم ،بالقول وبالعمل ،للمتعلّمين وللأُمّيّين .أمّا التدريس فيكون من خلال الكتابة والنظر إلى الكتاب ،فهو أخصّ والتعليم أعمّ .
( ولا يأمُركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً ) .
هذه تكملة لما بحث في الآية السابقة ،فكما أنّ الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم ،فإنّهم كذلك لا يدعونهم إلى عبادة الملائكة وسائر الأنبياء .وفي هذا جواب لمشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هم بنات الله ،وبذلك يسبغون عليهم نوعاً من الألوهية ،ومع ذلك كانوا يعتبرون أنفسهم من أتباع دين إبراهيم .كذلك هو جواب للصابئة الذين يقولون إنّهم أتباع «يحيى » ،وكانوا يرفعون مقام الملائكة إلى حدّ عبادتهم .وهو أيضاً ردّ على اليهود الذين قالوا إنّ «عزيراً » ابن الله ،أو النصارى الذين قالوا إن «المسيح » ابن الله ،وأضفوا عليه طابعاً من الربوبية ،فالآية تردّ هؤلاء جميعاً وتقول إنّه لا يليق بالأنبياء أن يدعو الناس إلى عبادة غير الله .
وفي الختام تقول الآية ( أيأمُركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) .أيمكن أن يدعوكم النبيّ إلى الكفر بعد أن اخترتم الإسلام ديناً ؟
واضح أنّ «الإسلام » هنا يقصد به معناه الأوسع ،كما هي الحال في مواضع كثيرة من القرآن ،وهو التسليم لأمر الله والإيمان والتوحيد .أي كيف يمكن لنبيّ أن يدعو الناس أوّلاً إلى الإيمان والتوحيد ،ثمّ يدلّهم على طريق الشرك ؟أو كيف يمكن لنبيّ أن يهدم ما بناه الأنبياء في دعوتهم الناس إلى الإسلام .فيدعوهم إلى الكفر والشرك ؟
تنوّه الآية ضمنيّاً بعصمة الأنبياء وعدم انحرافهم عن مسير إطاعة الله{[605]} .
/خ80