وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول:
( فمن تولى بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون ) .
فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدةأعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه ،فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى .ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين ،كما مرّ في الآية 80 من سورة التوبة: ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ،ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة ،فإن مصيره إلى النار .
هنا ثلاث نقاط لابدّ أن ننتبه لها:
1هل هذه الآية مقصورة على بشارة الأنبياء السابقين وميثاقهم بالنسبة لنبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،أم أنّها تشمل كلّ نبيّ يبعث بعد نبيّ قبله ؟
يظهر من الآية أنّها تعبّر عن مسألة عامّة ،وإن كان خاتم الأنبياء مصداقها البارز .كما أنّ هذا المعنى الواسع يتّسق مع روح مفاهيم القرآن .لذلك إذا ما رأينا في بعض الأخبار أنّ المقصود هو نبيّ الإسلام الكريم ،فما ذلك إلاَّ من قبيل تفسير الآية وتطبيقها على أجلى مصاديقها ،وليس لأنّ المعنى جاء على سبيل الحصر .
ينقل الفخر الرازي في تفسيره عن الإمام علي ( عليه السلام ) قال: «إنّ الله تعالى ما بعث آدم ( عليه السلام ) ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلاَّ أخذ عليهم العهد لئن بعث محمّد عليه الصلاة والسلام وهو حي ،ليؤمننّ به ولينصرنّه »{[607]} .
2بعد أخذ مضمون الآية بنظر الاعتبار ،يبرز هذا السؤال: أيمكن أن يظهر نبيّ من أُولى العزم في زمان نبيّ آخر من أُولي العزم حتّى يتبعه ؟
يمكن القول في جواب هذا السؤال: إنّ الميثاق لم يؤخذ من الأنبياء وحدهم ،بل ومن أتباعهم أيضاً ،كما قلنا في تفسير الآية ،والواقع أنّ القصد من أخذ الميثاق من الأنبياء وأخذه من أُممهم والأجيال التي تولد بعدهم وتدرك عصر النبيّ التالي .كما أنّ الأنبياء أنفسهم يؤمنون أيضاً إذا أدركوافرضاًعهد الأنبياء التالين .أي أنّ أنبياء الله لا ينفصلون إطلاقاً في أهدافهم وفي دعوتهم ولا صراع أو خلاف بينهم .
3والقول الأخير بشأن هذه الآية هو أنّها وإن تكن بخصوص الأنبياء ،فهي تصدق طبعاً بحقّ خلفائهم أيضاً ،إذ أنّ خلفائهم الصادقين لا ينفكّون عنهم ،وهم جميعاً يسعون لتحقيق هدف واحد .ولذلك كان الأنبياء يعيّنون خلفائهم ،ويبشّرون الناس بهم ويدعونهم إلى الإيمان بهم وشدّ أزرهم .
ولئن وجدنا بعض الروايات الواردة في تفاسيرنا لهذه الآية وكتب أحاديثنا بشأن نزول عبارة «ولتنصرنّه » في علي ( عليه السلام ) وأنها تشمل قضية الولاية ،إنّما هو إشارة إلى هذا المعنى .
ولابدّ أن نشير إلى أنّ هذه الآيةمن حيث تركيبها النحويكانت موضع بحث بين المفسّرين ورجال الأدب{[608]} .
4التعصّب المقيت
يحدّثنا التاريخ أنّ أتباع دين من الأديان لا يتخلّون بسهولة عن دينهم ولا يستسلمون للأنبياء الجدد المبعوثين من قبل الله ،بل يتمسّكون بدينهم القديم تمسّكاً جافّاً جامداً ،ويدافعون عنه كأنّه جزء من وجودهم ،ويرون تركه إبادة لقوميّتهم .
لذلك يشقّ عليهم القبول بالدين الجديد .إنّ منشأ الكثير من الحروب الدينية التي وقعت على امتداد التاريخوهي من أفظع حوادث التاريخهو هذا التعصّب الجاف والجمود على الأديان القديمة .
غير أنّ قانون الارتقاء والتكامل يقول: هذه الأديان يجب أن تأتي الواحد تلو الآخر ،وتتقدّم بالبشرية في سيرها نحو معرفة الله والحقّ والعدالة والإيمان والأخلاق والإنسانية والفضيلة ،حتّى تصل إلى الدين النهائي ،خاتم الأديان ،كالطفل الذي يتدرّج في مراحل الدراسة ويطويها الواحدة بعد الأخرى حتّى يتخرّج من الكليّة والجامعة .
فإذا أحبّ التلاميذ جوّ مدرستهم الابتدائية ذلك الحبّ الذي يربطهم بمدرستهم إلى درجة أنّهم يرفضون الانتقال إلى المدرسة الثانوية ،فبديهيّ أنّ لا يكون نصيب هؤلاء سوى التخلّف عن ركب السائرين نحو التقدّم والارتقاء .
إنّ إصرار الآية على أخذ الميثاق والعهد المؤكّد من الأنبياء والأُمم الماضية نحو الأنبياء التالين لهم قد يكون من أجل اجتناب أمثال هذا التعصّب والجمود والعناد .
ولكنّ الذي يؤسف له أنّنابعد كلّ هذا التأكيدما زلنا نرى أتباع الأديان القديمة لا يسلّمون بسهولة أمام الحقائق الجديدة .سوف نشرح إن شاء الله في تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب كيف يكون الإسلام آخر الأديان وخاتمها ولماذا ؟