سبب النّزول
قرع السّلاح بسلاح يشابهه:
روي عن ابن عباس ومفسّرين آخرين أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )بعد الأحداث الأليمة لواقعة أحدصعد إِلى جبل أحد وكان على الجبل أبو سفيان ،فخاطب النّبي بلهجة الفاتح بقوله: «يا محمّد يوم بيوم بدر !» وعنى أبو سفيان بذلك أن انتصارهم في أُحد كان مقابل هزيمتهم في واقعة بدر .
فطلب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المسلمين أن يردوا عليه فوراً ،ولعل النّبي أراد أن يثبت لأبي سفيان إِنّ من تربوا في ظل الرسالة الإِسلامية يتمتعون بكامل الوعي ،فرد المسلمون على أبي سفيان: هيهات أن يستوي الوضع بين المؤمنين والمشركين ،فشهداء المؤمنين في الجنّة وقتلى المشركين في النّار .
فأجاب أبو سفيانصارخاً ومفتخراًبالعبارة التالية:
«لنا العزّى ولا عزّى لكم » فردّ عليه المسلمون:
«الله مولانا ولا مولى لكم » ولما عجز أبو سفيان عن الردّ على هذا الجواب والشعار الإِسلامي الحي تخلى عن صنمه «العزى » وعرج على صنم آخر هو «هبل » متوسلا إِليه بقوله: «أُعل هبل ،أُعل هبل » فردّ عليه المسلمون بجواب قوي علّمهم إِياه نبي الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو:
«الله أعلى وأجل » .
فما أعيت أبا سفيان الحيلة ولم تجده شعاراته الوثنية نفعاً قال صارخاً: «موعدنا في أرض بدر الصغرى » .
عاد المسلمون من ساحة القتال مثخنين بالجراح ،وحين كان يعتصرهم الألم من أحداث أُحد ،نزلت الآية المذكورة أعلاه محذرة المسلمين من الغفلة عن المشركين مطالبة إِياهم بملاحقة قوى الشرك دون كلل أو ملل ،وأن لا يتأثروا بحوادث مؤلمة كحادثة أُحد ،فهب المسلمون وهم في تلك الحالة لملاحقة العدو ،فما أن سمع المشركون بعزم المسلمين حتى أسرعوا الخطى مبتعدين عن المدينة وعادوا إِلى مكّة{[887]} .
إِنّ سبب النّزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو ،وأن يواجهوا كل أسلوب حربي يتبعه العدو ،سواء الأسلوب القتالي أو النفسي بأسلوب إِسلامي أقوى ،وأعنف من أسلوب العدو ،وأن يواجهوا منطق الأعداء بمنطق أقوى وأشد ،ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى ،وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إِسلامية ضاربة ،وبغير ذلك فإِنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء .
ومن هذا المنطلق ،فإِنّنا نحن المسلمينبدلا من أن نجلس ونذرف الدموع على ما مر ويمر علينا من أحداث مؤلمة مريرة ،وما تشهده مجتمعاتنا من مفاسد رهيبة تحيط بهذه المجتمعات من كل جانب ،علينا أن نبادر بصورة فعالة إِلى العمل ،فنواجه العدوان المكتوب بكتابات تدحضه وتقمعه ،ونواجه الإِعلام الضال المسموم المضلل بأسلوب إِعلامي يحبطه ويقضي على أمره ،ونقابل مراكز اللهو الخليع ببناء مراكز للهو البريء السليم لشبابنا وأبنائنا ،ونقرع الأفكار والأطروحات والمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالفكر الإِسلامي الجامع بأسلوب عصري يفهمه الجميع .
وإِذا استطعنا أن نواجه أعداءنا بهذه الصورة فقد أفلحنا في الحفاظ على كياننا الإِسلامي ،وفي أن نبرز للعالم بشكل مجتمع تقدمي أصيل .
التّفسير
أعقبت الآيةموضوع البحث هذهالآيات السابقة التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها: ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود بأسلوب دفاعي ،بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائماً ،لأنّ هذا الأسلوب الأخير له أثر قامع للعدو ومؤكد على معنوياته .
وقد جرّب المسلمون هذا الأمر في مواجهتهم للعدو بعد واقعة أُحد التي هزموا فيها ،فأرغموا العدو على الفرار مع أنّه كان لم يزل يتلذذ بطعم الإِنتصار الذي أحرزه في أُحد .إِذ لما علم المشركون بقدوم المسلمين خافوا من العودة إِلى ساحة القتال ،وأسرعوا مبتعدين عن المدينة .
بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به ،فتسأل المسلمين لماذا الوهن ؟فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإِنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر ،مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة ،بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك ،حيث تقول الآية: ( إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ...) .
وفي الختامومن أجل إِعادة التأكيدتطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم الله بجميع الأُمور ،فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم ،ويعلم أنّهم أحياناً يصابون بالتهاون والفتور ،فتقول الآية: ( وكان الله عليماً حكيماً ) وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك .