التّفسير
نستنتج من الآيات السابقة واللاحقة أنّ هاتين الآيتين تقصدان مجموعة من المنافقين تسللوا إِلى صفوف المسلمين ،وقد قرأنا في الآيات السابقة أن هؤلاء قد أبدوا الخوف والقلق من المشاركة في مسؤولية الجهاد ،وقد ظهر عليهم الضجر والإِستياء حين نزول حكم الجهاد ،فردّ عليهم القرآن الكريم وأنبّهم لموقفهم هذا بقوله: ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ){[842]} موضحاً أن الحياة بكل زخارفها سرعان ما تزول ،وإِنّ ما يناله المؤمنون الذين يخشون الله ولا يعصونه من الخير والثواب هو خير من كل ما في هذه الدنيا من خيرات .
وفي هذا المقطع القرآني ردّ آخر على أُولئك المنافقين ،حيث بيّن أن الموت آتيهم يوماً لا محالة ،حتى إِذا تحصنوا في قلاع عالية ومنيعة بحسب ظنّهم ،ومادام الموت يدرك الإِنسان بهذه الصورة أليس من الخير له أن يموت على طريق مثمر وصحيح كالجهاد ؟!
وممّا يلفت الانتباه أنّ القرآن الكريم يطلق في مواقع متعددة اسم «اليقين » على الموت ،كما في الآية ( 99 ) من سورة الحجر ،والآية ( 48 ) من سورة المدثرومعنى هذه العبارة القرآنية هو أن الإِنسان مهما كانت عقيدتهيؤمن بوجود الموت إِيماناً لا يخامره فيه شك مطلقاً ،ومهما أنكر المرء من حقائق لا يستطيع إنكار الموت الذي يشهده بأم عينه أو يسمع عنه كل يوم ،والإِنسان الذي يحب الحياة ويخال أن الموت هو الفناء الذي لا حياة بعده أبداً يخاف من ذكر الموت ويفر من مظاهره .
الآيتان الأخيرتان تؤكدان حقيقة عدم جدوى الفرار من الموت ،فهو يدرك الإِنسان يوماً ما لا محالة ،وهو حقيقة قطعية يقينية في عالم الوجود .
وعبارة ( يدرككم ) الواردة في الآية الأُولى تعني الملاحقة ،واللاحق هو الموت الذي يدرك الإِنسان ،وتوحي بأنّ الفرار لا ينقذ الإِنسان من هذا المصير الحتمي .
وتؤكد الحقيقة المذكورة الآية الثّامنة من سورة الجمعة إِذ تقول: ( قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإِنّه ملاقيكم ) .
إِذن ليس من العقل والمنطق أن يدرك الإِنسان هذه الحقيقة ويفر بعد ذلك من ميدان الجهاد ،ويحرم نفسه أشرف ميتة وهي الشهادة في سبيل الله ،فيموت على فراشه فلو عاش الإِنسان بعد فراره من الجهاد أيّاماً أو شهوراً أو سنوات لتكرر ما فعل ولتكررت أمامه المشاهد الماضية ،فهل من العقل أن يحرم الإِنسان نفسه لأجل هذه المتكررات من الثواب الأبدي الذي يناله المجاهد في سبيل الله ؟!
وهنا أمر ثان يجب الإِنتباه له في الآية الأُولى من هاتين الآيتين ،وهو عبارة ( بروج مشيدة ){[843]} التي تؤكد أنّ الموت لا تحول دونه القلاع والحصون المنيعة العالية ،والسرّ في هذا الأمر هو أنّ الموت الطبيعي لا يداهم الإِنسان من خارج وجودهخلافاً لما يتصورونولا يحتاج إِلى اجتياز القلاع والحصون ،بل يأتي من داخل وجود الإِنسان حيث تقف أجهزة الإِنسان عن العمل بعد نفاذ قدرتها المحدودة على البقاء .
نعم ،الموت غير الطبيعي يأتي الإِنسان طبعاً من خارج وجوده ،وبذلك قد تنفع القلاع والحصون في تأخير هذا النوع من الموت عنه .
ولكن ماذا ستكون النهاية والنتيجة ؟هل بمقدور القلاع والحصون أن تحول دون وصول الموت الطبيعي الذي سيدرك الإِنساندون شكفي يوم من الأيام ؟!