من أين تأتي الانتصارات والهزائم ؟
يشير القرآن في هاتين الآيتين إِلى وهم آخر من أوهام المنافقين ،حين يوضح أن هؤلاء إِذا أحرزوا نصراً أو غنموا خيراً قالوا: إِنّ الله هو الذي أنعم عليهم بذلك ،وزعموا أنّهم أهل لهذه النعمة: ( وإِن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ) .
أمّا إِذا مني هؤلاء بهزيمة أو لحقهم أذى في ميدان القتال ،ألقوا اللوم على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وافتروا عليه بقولهم إِنّ ما نالهم من سوء هو من عنده ،متهمين خططه العسكرية بالضعف ،من ذلك ما حدث في غزوة أُحد ،تقول الآية: ( وإِن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ...) .
ويحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الآية قد نزلت بشأن اليهود ،ويرون أنّ المقصود بالحسنة والسيئةهناهو ما كان يحدث من وقائع سارة وضارة ،حيث كان اليهود حين بعثة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينسبون كلّ حدث سار ونافع إِلى الله ،ويعزون حدوث الوقائع الضّارة إِلى وجود النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين ظهرانيهم ،بينما اتصال الآية بالآيات السابقة والتاليةالتي يدور الحديث فيها عن المنافقينيدل على أنّ المقصود في هذه الآية الأخيرة هم المنافقون .
ومهما يكن من أمر ،فإنّ القرآن الكريم يردّ على هؤلاء مؤكداً إنّ الإِنسان المسلم الموحد الذي يؤمن صادقاً بالله ويعبده ولا يعبد سواه ،إِنّما يعتقد بأنّ كل الوقائع والأحداث والانتصارات والهزائم هي بيد الله العليم الحكيم ،فالله هو الذي يهب الإِنسان ما يستحقه ويعطيه بحسب قيمته الوجودية ،وفي هذا المجال تقول الآية: ( قل كلّ من عند الله ) .
والآيةهذهتحمل في آخرها تقريعاً وتأنيباً للمنافقين الذين لا يتفكرون ولا يمعنون في حقائق الحياة المختلفة ،حيث تقول: ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ) .
وبعد هذافي الآية التاليةيصرّح القرآن بأنّ كل ما يصيب الإِنسان من خيرات وفوائد وكل ما يواجهه الكائن البشري من سرور وانتصار هو من عند الله ،وإِن ما يحصل للإِنسان من سوء وضرر وهزيمة أو خسارة فهو بسبب الإِنسان نفسه تقول الآية: ( ما أصابك من حسنة فمن عند الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ...) وتردّ الآية في آخرها على أُولئك الذين كانوا يرون وجود النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) سبباً لوقوع الحوادث المؤسفة فيما بينهم فتقول: ( وأرسلناك للنّاس رسولا وكفى بالله شهيداً ) .
جواب على سؤال مهم:
السّؤال المهم الذي يتبادر إِلى الذهن حين قراءة هاتين الآيتين الأخيرتين هو: لماذا نسب الخير والشر في الآية الأُولى كلّه لله ؟ولماذا حصرت الآية التالية الخيروحدهلله ،ونسبت الشرّ إِلى الإِنسان ؟
حين نمعن النظر في الآيتين تواجهنا عدّة أُمور ،يمكن لكل منها أن يكون هو الجواب على هذا السؤال .
1لو أجرينا تحليلا على عناصر تكوين الشر لرأينا أنّ لها اتجاهين: أحدهما إِيجابي والآخر سلبي ،والاتجاه الأخير هو الذي يجسد شكل الشر أو السيئة ويبرزه على صورة «خسارة نسبية » فالإِنسان الذي يقدم على قتل نظيره بسلاح ناري أو سلاح بارد يكون قد ارتكب بالطبع عملا شريراً وسيئاً ،فما هي إِذن عوامل حدوث هذا العمل الشرير ؟
إِنّها تتكون من: أوّلا: قدرة الإِنسان وعقله وقدرة السلاح والقدرة على الرمي والتهديف الصحيحين واختيار المكان والزمان المناسبين ،وهذه تشكل عناصر الاتجاه الإِيجابي للقضية ،لأنّ كل عنصر منها يستطيع في حدّ ذاته أن يستخدم كعامل لفعل حسن إِذا استغل الاستغلال الحكيم ،أمّا الاتجاه السلبي فهو في استغلال كل من هذه العناصر في غير محله ،فبدلا من أن يستخدم السلاح لدرء خطر حيوان مفترس أو للتصدي لقاتل ومجرم خطير ،يُستخدم في قتل إِنسان بريء ،فيجسد بذلك فعل الشر ،وإِلاّ فإِنّ قدرة الإِنسان وعقله وقدرته على الرمي والتهديف ،وأصل السلاح وكل هذه العناصر ،يمكن أن يستفاد منها في مجال الخير .
وحين تنسب الآية الأُولى الخير والشرّ كلّه لله ،فإِن ذلك معناه أنّ مصادر القوّة جميعها بيد الله العليم القدير حتى تلك القوّة التي يساء استخدامها ،ومن هذا المنطلق تنسب الخير والشرّ لله ،لأنّه هو واهب القوى .
والآية الثّانية: تنسب «السيئات » إِلى الناس انطلاقا من مفهوم «الجوانب السلبية » للقضية ومن الإِساءة في استخدام المواهب الإِلهية .
تماماً مثل والد وهب ابنه مالا ليبني به داراً جديدة ،لكن هذا الولد بدلا من أن يستخدم هذا المال في بناء البيت المطلوب ،اشترى مخدرات ضارة أو صرفه في مجالات الفساد والفحشاء ،لا شك أنّ الوالد هو مصدر هذا المال ،لكن أحداً لا ينسب تصرف الابن لوالده ،لأنه أعطاه للولد لغرض خيري حسن ،لكن الولد أساء استغلال المال ،فهو فاعل الشرّ ،وليس لوالده دخل في فعلته هذه .
2ويمكن القولأيضاًبأنّ الآية الكريمة إِنّما تشير إِلى موضوع «الأمر بين الأمرين » .
وهذه قضية بحثت في مسألة الجبر والتفويض ،وخلاصة القول فيها أنّ جميع وقائع العالم خيراً كانت أم شرّاًهي من جانب واحد تتصل بالله سبحانه القدير لأنّه هو الذي وهب الإِنسان القدرة والقوّة وحرية الانتخاب والاختيار ،وعلى هذا الأساس فإِنّ كل ما يختاره الإِنسان ويفعله بإِرادته وحريته لا يخرج عن إِرادة الله ،لكن هذا الفعل ينسب للإِنسان لأنّه صادر عن وجوده ،وإِرادته هي التي تحدد اتجاه الفعل .
ومن هنا فإِنّنا مسؤولون عن أعمالنا ،واستناد أعمالنا إِلى اللهبالشكل الذي أوضحناهلا يسلب عنّا المسؤولية ولا يؤدي إِلى الإِعتقاد بالجبر .
وعلى هذا الأساس حين تنسب «الحسنات » و«السيئات » إِلى الله سبحانه وتعالى ،فلفاعلية الله في كل شيء ،وحين تنسب السيئة إِلى الإِنسان فلإِرادته وحريته في الإِختيار .
وحصيلة هذا البحث إِنّ الآيتين معاً تثبتان قضية الأمر «الأمر بين الأمرين » ( تأمل بدقّة ) !
3هناك تفسير ثالث للآيتين ورد فيما أثر عن أهل البيت( عليهم السلام ) ،وهو أنّ المقصود من عبارة السّيئات جزاء الأعمال السيئة وعقوبة المعاصي التي ينزلها الله بالعاصين ،ولما كانت العقوبة هي نتيجة لأفعال العاصين من العباد ،لذلك تنسب أحياناً إِلى العباد أنفسهم وأحياناً أُخرى إِلى الله ،وكلا النسبتين صحيحتان ،إذ يمكن القول في قضية إِنّ القاضي هو الذي قطع يد السارق ،كما يجوز أن يقال إِنّ السارق هو السبب في قطع يده لارتكابه السرقة .