/م72
أمّا الآية الأخيرة فتشير إِلى الطائفة الرّابعة من المسلمين ،أي أُولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد ،فتقول: ( والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأُولئك منكم ) .
أي أنّ المجتمع الإِسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه ، بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين ،وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة ،إلاّ أن ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزءاً من المجتمع الإِسلامي ولا يكونون من نسيجه .
وتشير الآية في ختامها إِلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض ،وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام ،فتقول: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) .
وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إِلى بعض » أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب ،فهم إضافة إِلى ولاية الإِيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً ،ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضاً ،إلاّ أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم .
فبناءً على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإِرث ،بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإِرث .
وإذا وجدنا في الرّوايات الإِسلامية ،وفي الكتب الفقهية ،استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإِرث ،فلا يعني ذلك أن الآي الذي استُدل به على الإِرث منحصر بهذا الشأن فحسب ،بل توضح قانوناً كليّاً ،والإِرث جزء منه .ولهذا نجد أنّه استُدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإِرث المالي .
واستُدل بها على أولوية غسل الميت ،كما صّرحت به الرّوايات الإِسلامية .
وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث ،وإذا أردنا أن نختار مثل هذا التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنياً الإِرث من الولاية المطلقة ،التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار ،فنقول: إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإِرث .
وأمّا الاحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإِرث أيضاً ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها ،فيبدو بعيداً جدّاً ،لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعاً من الناحية المعنوية ،بل حتى التشابه اللفظي ،كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معاً في وقت واحد .وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات .
وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسباً لهذه الآيات هو ما بيناه آنفاً .
وفي آخر جملة من هذه الآيةالتي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضاًيقول الله سبحانه: ( إنّ الله بكل شيء عليم ) .
فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب ،وتعاليم الجهاد والصلح ،وأحكام الأسرى والحرب ،وما يتعلق بالهجرة وغيرها ،كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإِنساني ،والعواطف البشرية ،والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة .
/خ75
ربّنا ،أيقظ مجتمعنا الإِسلامي بلطفك .ونَبهّنا إِلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم .ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة ،برحمتك يا أرحم الراحمين .