قوله تعالى:{وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم وليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} الميثاق العهد ،جمعه مواثيق وهو من التوثيق أي الثبوت والإحكام{[87]} .والله جلت قدرته يذكر بني إسرائيل بميثاقهم الذي أخذه الله عليهم على ألسن أنبيائهم وهو قوله{لا تعبدون إلا الله} وفي رفع الفعل ثلاثة أوجه: أولها: أن يكون مرفوعا ؛لأنه جواب لقوله تعالى:{وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل} لأنه في معنى القسم .فكأنه قال استخلفناهم لا يعبدون .كما يقال: حلف فلان لا يقومُ .والثاني: أنه إخبار في معنى النهي .كما تقول تذهب لفلان تقول له هذا تريد الأمر .وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي .والثالث: أن يكون{لا تعبدون} في موضع الحال{[88]} .على أن المقصود التأكيد على حق الله في العبادة الخالصة له سبحانه دون إشراك ،ويحذر من انتكاسة الشرك أشد تحذير ؛لما في ذلك من إغضاب له سبحانه وهو الإغضاب الذي يهون دونه كل إغضاب ؛لأن الشرك أكبر الكبائر وأعتى الخطايا .
ثم تعرض الآية ،بعد التأكيد على حق الله في العبادة ،لحقوق العباد من خلال المواثقة التي واثق الله بها بني إسرائيل ،ويأتي في طليعة هذه الحقوق ما أوجبه الله للوالدين من بالغ الطاعة والإكرام ،حتى قرن ذلك بطاعته هو نفسه ،وذلك كقوله:{أن اشكر لي ولوالديك} وقوله:{وبالوالدين إحسانا} وذلك بعد قضائه ألا يعبدوا إلا إياه .و{إحسانا} ،منصوب على المصدر بالفعل المقدر ،وتقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا .
ثم يوجب الله الحق لذي القربى وهم الذين تربطهم بالمرء وشائج النسب والرحم من إخوة وأخوات وبنين وبنات وأعمام وعمات وأخوال وخالات وبني إخوة وبني أخوات إلى غير هؤلاء من ذوي القرابة ،فهم جميعا أولو قربى تجب صلتهم بإحسان وبر .
وكذلك اليتامى وهو جمع مفردة يتيم من اليتم بضم الياء وفتحها .واليتيم في الناس بفقد الأب ،أما في غير الناس فهو بفقد الأم .وقيل: اليتم في الناس من مات أبوه أو ماتت أمه ،لكن من مات أبواه الاثنان فهو لطيم .والأصل في تسمية اليتيم بذلك ؛لكونه منقطع النظير .فاليتيم هو كل فرد عز نظيره ،كالدرة اليتيمة سميت بذلك ،لأنها لا نظير لها{[89]} .واليتيم الذي تكون هذه حاله تجب العناية به ،وتحرم الإساءة إليه تحريما شرعيا مغلظا ،فإنه لا يجترئ على الإضرار باليتيم وإلحاق الأذية به إلا من كان ظالما لنفسه أو من أودى بنفسه في جهنم .
وكذلك المساكين ،جمع تكسير مفرده مسكين وهو من السكون أي ذهاب الحركة .سمي المسكين بذلك ؛لسكونه إلى الناس .واختلفوا في حقيقة حال المسكين وفيها يفرق بينه وبين الفقير .فقد قيل: المسكين الذي لا شيء له بإطلاق ،أما الفقير فهو الذي له بلغة من العيش ،وقد سئل أعرابي: أفقير أنت ؟فقال: لا والله بل مسكين .وخالف الأصمعي في ذلك فقال: المسكين أحسن حالا من الفقير واستدل على ذلك بقوله تعالى:{أما السفينة فكانت لمساكين} ومعلوم أن السفينة كانت تساوي جملة من المال ،لكنه سبحانه قال في أية أخرى عن الفقراء:{لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} .
وفي قول آخر وهو أن المسكين والفقير كليهما سيان لا فرق بينهما .وقيل: المسكين الذي يكون ذليلا مقهورا حتى ولو كان يملك شيئا ،وذلك يفهم من قوله تعالى في اليهود:{وضربت عليهم الذلة والمسكنة}{[90]} .
قوله:{وقولوا للناس حسنا} مفعول به منصوب .وقيل: صفة لمصدر محذوف ،وذلك حق آخر جعله الله للناس على بني إسرائيل وهو أن يقولوا لهم القول الكريم الطيب النافع ،بما في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والصدق في القول ،والعفو عن الناس ،والتحدث إليهم في تواضع وتودد .
وكذلك من مواثقته لهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ،وهذان عملان جليلان كبيران يأتيان في مقدمة العبادات جميعا بما يقرب المرء من ربه درجات ،ويدنيه من الجنة فيكون من الفائزين .
ثم يخاطب الله بني إسرائيل الذين خلوا في الأزمنة الغابرة ،وذلك في أشخاص أعقابهم من اليهود الذين كانوا شهودا في فترة النبوة المحمدية ؛وذلك لأن المتأخرين كانوا مثل أسلافهم من الآباء والأجداد الذي عصوا أمر ربهم ،وشقوا عصا الطاعة على أنبيائهم .فآذوهم وكلفوهم العنت والتضييق فقال سبحانه:{ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} التولي الإعراض عن دعوة الله في استكبار وجحد .تولوا عن أوامر الله وتعاليمه إلا القلة القليلة منهم .والجملة الاسمية{وأنتم معرضون} في محل نصب حال .أي توليتم عن أمر الله وأنتم في ذلك معرضون ،من الإعراض وهو نفس التولي ،وقيل: الإعراض يكون عن طريق القلب ،لكن التولي يكون بالجسم .