قوله: ( ففهمناها سليمان ) أي فهمنا سليمان الفتوى أو الحكومة{[3049]} في القضية ،وفي هذا دليل على أن الصواب كان في حكم سليمان عليه السلام .والقصة ما بيناه آنفا .
قوله: ( وكلا آتينا حكما وعلما ) آتى الله كلا من داود وسليمان ( حكما ) ،أي النبوة ،و ( وعلما ) ،أي معرفة بالقضاء في الخصومات والقضايا .وهذا دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه ،وأن كل مجتهد مصيب .
قوله: ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) التسخير ،معناه التذليل ( يسبحن ) ،جملة فعلية في موضع نصب على الحال ،بمعنى مسبحات ( والطير ) ،معطوف على الجبال .والمعنى: ذللنا مع داود الجبال مسبحات .وذلك لطيب صوته عليه السلام بتلاوة الزبور ،وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ،وترد عليه الجبال تأويبا .وقد قدمت الجبال على الطير ؛لأن تسخيرها وتسبيحها أشد عجبا وأظهر في الإعجاز ؛لأنها جماد .وقد روي أن النبي ( ص ) لما مر على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت حسن ومستطاب ،وقف واستمع لقراءته وقال:"لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود "فقال يا رسول الله:"لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرا "أي جعلته ذا نغمة حسنة .ومنه الحبور وهو السرور .وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه .والمراد بتسبيح الجبال والطير وقوع ذلك منهن بالنطق ،وهو قولهن: سبحان الله .
ومن هنا ندرك حكمة النهي عن الملاهي ؛وهي الأدوات الموسيقية على اختلاف أنواعها باستثناء الدف ،لما في هذه الأدوات من تطريب سيفضي في الغالب إلى الاستغناء عن التطريب بالقرآن .هذا الكلام المعجز المستعذب الذي يتلوه أولو المواهب مرنّمين{[3050]} محبرين ؛لتأتي تلاوتهم على أحسن ما تكون عليه الأصوات من نداوة وحلاوة .فما ينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن التطريب بالقرآن ،بغيره من الملاهي المصطنعة من الأدوات الموسيقية .لا جرم أن التهلي بسماع الموسيقى سيطفئ في القلوب والوجدان رويدا رويدا جذوة الترنم بالقرآن .فما يوغل المرء في استماع الموسيقى حتى يفتر في حسه مذاق الابتهاج بسماع هذا الكتاب الرباني الكريم .
ونجزم في يقين أن الاستماع إلى أصوات ندية حسنة تردد آيات القرآن سوف يُغني عن التلذذ بأدوات الطرب من الملاهي المصنوعة .وفي المسلمين في كل زمان طائفة من أولي الأصوات الشجية الندية ما يستجيش الوجدان ويستحوذ بالغ الاستحواذ على الفكر والبال والجنان ،ويُجهش في القلوب والأرواح إحساسا مستفيضا من الحبور والتملّي وإشاعة البهجة والجمال وبالغ العظة والادكار .
قوله: ( وكنا فاعلين ) أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال ،وتسبيحهن والطير ،وليس ذلك بدعا من الله وإن كان عندكم عجيبا .