قوله: ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) أي جاهدوا المشركين والمنافقين طلبا لمرضاة الله .وذلك لدفع أذاهم وكف شرورهم عن المسلمين .وقيل: المراد بالجهاد هنا عموم الامتثال لأوامر الله جميعها ،والانتهاء عن كل نواهيه ؛يعني جاهدوا أنفسكم بتوطينها على فعل الطاعات ومجانبة المعاصي والخطيئات . قوله: ( هو اجتباكم ) الله اختاركم لأشرف رسالة .وهي رسالة الإسلام .وما تضمنه من كامل الشريعة المباركة التي يصلح عليها الناس في حياتهم ومعادهم . قوله: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) الحرج معناه الضيق{[3151]} .وهذه الآية شاهد عظيم على صلوح الشريعة الإسلامية للإنسان في كل مكان وزمان .لا جرم أن هذه الشريعة بنيت على التيسير والتسهيل والرحمة ؛فهي بذلك مغايرة للتشديد والتضييق والإعنات .وهذه واحدة من كبريات المزايا التي تتجلى في شريعة هذا الدين العظيم .وهي مزايا أساسية وثابتة تكشف عن طبيعة هذا الدين المميز المرغوب .طبيعته الكريمة الميسورة التي تنسجم تماما مع فطرة البشر .
على أن هذه الآية العظيمة تدخل في كثير من أحكام الشريعة الإسلامية بما يحقق فيها اليسر والتوسعة ويزيل منها التشديد أو الحرج الذي لا يطاق .ومن الأمثلة على هذه الحقيقة ،الصلاة .وهي عماد الدين ؛بل هي الركيزة الثانية الكبرى في هذا الدين كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله ؛فإنها قد شرع فيها التيسير والترخيص مما يجعلها سهلة تطاق ،فهي تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ركعتين اثنتين ،فضلا عن جمع الصلاة بوجهيه في التقديم والتأخير .وتصلى رجالا وركبانا في حالات الأعذار ويسقط فيها وجوب القيام للمريض فيؤديها جالسا ،فإن لم يستطع ؛فعلى الجنب ،فإن لم يستطع ؛فمستلقيا .فإن لم يستطع فيومئ إيماء .وكذلك فريضة الصيام شرع فيها الترخيص في الإفطار عند الحاجة .إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة المنتشرة في كل مناحي الشريعة ؛فقد شرع فيها التخفيف والتوسعة والرخص ؛دفعا للمشقة والحرج وإذهابا للعنت عن الناس وجلبا للتسهيل عليهم .
ومن جملة ذلك: تشريع الكفارات ؛فقد شرعها الله لمحو كثير من الزلات والمخالفات .وكذلك الاستغفار والتوبة ؛فهما بابان عظيمان لتكفير الذنوب والصفح عن الخطايا والعيوب التي يتعثر بها الإنسان أو يقع فيها استجابة لضعفه .لكنه إذ يبادر الاستغفار والندامة تائبا ؛فإن الله تواب رحيم .وذلك يبين يُسر هذا الدين وسهولة الأخذ به .وفي الحديث:"بعثت بالحنيفية السمحة ".
قوله: ( ملة أبيكم إبراهيم ) ( ملة ) ،منصوب بفعل مقدر .وتقديره: اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم{[3152]} .
قوله: ( هو سماكم المسلمين ) الذين سماهم المسلمين هو الله عز وجل ؛فقد سماهم بذلك من قبل في الكتب المتقدمة ( وفي هذا ) يعني القرآن .
قوله: ( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) أي يشهد عليكم يوم القيامة أنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ( وتكونوا شهداء على الناس ) أي لتشهدوا على الناس يوم القيامة أنهم قد بلغوا من رسلهم دعوة ربهم . فلا جرم أن هذه نعمة عظمى قد امتن الله بها على هذه الأمة ؛إذ جعلها خير الأمم لتشهد يوم القيامة على سائر الأمم بحقيقة التبليغ .وهي نعمة من الله جديرة أن تقابل ببالغ الشكران لله .وذلك بصدق التوجه إلى جنابه وحسن الإخبات له ،مطيعين عابدين خاشعين .وهو قوله: ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) أي ثقوا به كامل الثقة في كل أموركم ،واعتضدوا به تمام الاعتضاد ،وتوكلوا عليه بالغ التوكل ،واطلبوا منه وحده العون والنصر والتأييد ( هو مولاكم ) أي ناصركم ومؤيدكم ومظهركم على عدوكم ( فنعم المولى ونعم النصير ) نعم الولي ونعم الناصر{[3153]} .