قوله تعالى: ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ) قوله: ( أينما ) أداة شرط ،وما زائدة .( تكونوا ) جملة الشرط ،وقوله: ( يدرككم الموت ) جواب الشرط .وذلك خطاب عام للناس جميعا بأنهم صائرون إلى الموت لا محالة وأنهم لا يدرأون عن أنفسهم الموت مهما اتخذوا من الوسائل والأسباب التي قد تدرأ عنهم بعض الشدائد والعوادي أو تخفف عنهم حدة الأزمات والكوارث ،لكنها لا ترد عنهم داهية الموت الذي سيؤول إليه كل كائن مهما امتد به العمر والأيام .قال سبحانه: ( كل من عليها فان ) وقال جلا وعلا: ( كل نفس ذائقة الموت ) .
قوله: ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) البروج المشيّدة هي القصور المنيعة المحصّنة وقيل هي الحصون والقلاع والآطام المبنية .وقيل غير ذلك وهي جميعها أقوال متقاربة يقصد منها الثواء إلى حصون مكينة منيعة ظنا أنها تدرأ عن الثاوين المخاطر والمقادير .لكن داهية الموت إذا دهمت وجاء الأجل المقّدر المحتوم باتت كل هذه الأسباب والمحاذير غير ذات قيمة أو اعتبار .فلا يغني حينئذ حذر من قدر ولا تجدي المحاذير أو الحسابات البشرية مما هو مسطور في علم الله وقدره ؛لأن ( أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) ولا يتشبّث أحد بمثل هذه الأسباب إلا وهو يخالطه الحرص البالغ على الحياة أو المكث فيها طويلا ،وهو لا تدنو منه قارعة الموت إلا ويجد نفسه شديد اللصوق بالحياة والإخلاد إلى الأرض في انشداد عجيب مؤمّلا أن يستزيد من البقاء ما هو أكثر .وتظل بوادر المنيّة وأعراضها تتكشف له عن النذير بالفراق المرعب الطويل ،لكنه يظل يستمسك بحبائل الحياة في عناء وهو يعلل نفسه بطول الآمال والأماني .وما ذلك إلا العبث اللاهي الذي يتيه خلاله الإنسان ليبعد عن نفسه شبح الموت ،وهو شبح مخوف مزلزل يتراءى للإنسان في كل لحظة فيراود فيه الحس والخيال مراودة غليظة تنذر بحلول الأجل الذي تلتفظ معه الأنفاس وتزهق فيه الروح زهوقا .
قوله: ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) يرجع الضمير في قوله تصبهم على المنافقين .فهم الذين تهرف ألسنتهم بالسوء ليغمزوا النبي في وقاحة فاجرة بأن الحسنة تصيبهم سببها فضل الله عليهم اما اذا اصابتهم السيئة فسببها شؤم النبي ( ص ) وأصحابه .والمقصود بالحسنة هنا مجموعة السلامة والأمن والرزق والخير والخصب .ويقصد بالسيئة ما اشتمل على السوء والضراء وذلك كالفقر والمرض والجدب وانحباس المطر وغير ذلك من أنواع الشدة .
وفي قول آخر بأن الضمير في قوله: ( تصبهم ) يعود على اليهود والمنافقين معا وذلك أنهم لما قدم عليهم النبي ( ص ) في المدينة مهاجرا قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه .لا جرم أن ما قالوه غاية الباطل والافتراء ،بل إنه اجتراء خسيس وجهول ووقح تنحسر عنه قلوب هؤلاء الكاذبين المرضى .ومن بدهيات القضايا الكونية في هذا الوجود أن النبي الكريم محمدا ( ص ) كان وما زال بشخصه وطبعه وسيرته وذكراه مثار خير وبركة وراحة تنهمر في نفوس المؤمنين انهمارا .فما يتصور الإنسان روعة الشمائل والسجايا وكريم الطبع والخصال في شخصية النبي الكريم حتى يغمره الحبور والدهش وينشر في أغواره فيض الإعجاب البالغ بهذا الإنسان المتميز الفذ .
أما مقالة هؤلاء الظالمين الضالين عن الرسول ( ص ) فإنها غاية في التخريص الظالم والافتراء المهين .قالوا: إنهم إذا أصابهم خير مثل الرزق والرخاء العطاء فهو من عند الله ومن فضله وتقديره .وإذا أصابهم السوء مثل المرض والخوف والقحط قالوا:"هذه من عندك "أي بشؤمك الذي أصابنا بسببك وذلك على جهة التطيّر .
وقوله: ( قل كل من عند الله ) وتلك قاعدة أساسية للتصوّر الإسلامي الصحيح في مثل هذه المسألة .كل شيء من عند الله بما في ذلك الحسنة والسيئة على نحو ما بينا ،وفي ذلك المعنى شيء من الإجمال الذي يقتضي البيان والتفصيل وهو آت في الآية التي تلي هذه .
قوله: ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) أي كيف لا يعلم هؤلاء أن الله هو الباسط والقابض والرازق ؟وكل ذلك إنما يصدر عن حكمة وتقدير .ذلك تنديد بهؤلاء الفسّاق الذين قالوا مقالة السوء ونسبوا الشؤم للنبي ( ص ) وأصحابه .إنه تنديد تتسفّه به أحلام هؤلاء الفسّاق ليوصموا بفرط الغباوة والجهل .ولا جرم أن يكون ذلك قرين المجرمين الفاسدين الذين يفترون على النبي وأصحابه بأفدح فرية .