قوله:{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ذلك تفسير لمعنى المعصية والاعتداء .وهو أن الكافرين من بني إسرائيل كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن فعل المنكر وهو المعاصي والمحرمات .فإن عدم النهي عن فعل المنكرات في ذاته حرام .
فالواجب في حق المؤمن في هذه المسألة شيئان ،أحدهما: أن ينهى المؤمن أخاه عن فعل الحرام على اختلافه وتعدد ضروبه .
ثانيهما: أن يكون الناهيمنتهيا عما ينهى عنه وإلا كان شريك الفاعل في المعصية .وفي هذا أخرج الإمام أحمد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم "قال: وأحسبه قال:"في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال:"لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا "{[1028]} أي تعطفوهم عليه .
وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك .ثم يلقاه بالغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض "ثم قال:"كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو تقسرنه على الحق قسرا ".
ويحذر الرسول الله صلى الله عليه وسلم من السلبية وعدم الاكتراث من شيوع المعاصي داعيا أمته في كل زمان ومكان أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر ،فيقول:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر و ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم "رواه أحمد عن حذيفة بن اليمان .
على أن المنكر ظاهرة قبيحة شنيعة تشيع من خلالها المفاسد والشرور والآثام بما يفضي بعد ذلك إلى فساد المجتمع وتفككه واضطرابه .فما من مسلم مكلف إلا وقد نيطت به وجيبة النهي عن المنكر من غير تعثر ولا تردد ولا خور .وإنما يأتي ذلك من خلال أساليب ثلاثة ،أولها: النهي عن طريق الحجة الدامغة والبيان المؤثر الساطع .وسبيل ذلك اللسان .
وثانيها: القسر والشدة .وذلك للحيلولة دون وقع المنكر وكيلا يجترئ العصاة والأشرار على إتيان المحظورات وانتهاك الحرمات ،وذلك إذا لم تجد الدلائل والبراهين والحجج .وسبيل ذلك القوة .
وثالثها: الامتعاض والإحساس بالغضب والمضاضة وكراهية ما يصنعه الآثمون الخاطئون من معاص ومنكرات .وسبيل ذلك القلب .وهو أن تشمئز نفس المسلم وتتغيظ من الفساد والمفسدين وذلك إذا لم يقتدر أن ينهى عن المنكر بشيء مما بيناه ،لفرط ما يجده من ضرر محدق متوقع ربما أودى به أو ألحق به أذى لا يطاق ،لو أنه تصدى للعصاة بالحجة الصريحة أو القسر والشدة .وفي ذلك كله روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطعه فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
قال ابن عطية في هذا الصدد: الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين .فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه .
وعلى هذا فكراهية المنكر مجزية في تبرئة المسلم من الخطيئة حتى لو شهد العصاة متلبسين بها .فما دام قلبه حافلا بالامتعاض والألم مما يفعله العصاة الفاسقون كان بريئا وغير مقصر .أما لو لم يشهد المنكر لكنه قد علم به فرضيه ولم يتمعر وجهه غضبا ولا غيظا كان شريكا في الإثم .وفي هذا أخرج أبو داود عن ابن عميرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة – فأنكرها كان كمن غاب عنها ،ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها ".ولا ينبغي للمسلمين – والعلماء خاصة – أن يخذلهم الخوف فينثنوا عن الصدع بالحق أمام الحكام والأمراء ،بل عليهم أن يجهروا بذلك في صراحة وشمم ،كيلا يحتسبوا من الخائرين والمخذولين والجبناء .وفي هذا روى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ".
قوله:{لبئس ما كانوا يفعلون} اللام للقسم وبئس فعل جامد للماضي .ما اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع .وتقديره: لبئس الذي كانوا يفعلون{[1029]} .
وذلك تقبيح لسوء ما فعله الكافرون من بني إسرائيل .وهو عدم تناهيهم عما كان يجري بينهم من منكر .وفي ذلك تنديد غليظ زاجر بكل من يمسك عن الأمر بالمعروف وينثنى دون النهي عن المنكر .