قوله تعالى:{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين 85 ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين 86 وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذين أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} .
يطلق اسم مدين على القبيلة أو على المدينة ؛وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز ،وهم أصحاب الأيكة .ومدين ممنوع من الصرف ؛لأنه اسم علم مؤنث أضيف إلى مضاف قبله ،وتقديره أهل مدين .أما شعيب فهو من أولاد إبراهيم ؛فقد قيل: إنه ابن حرة بن يشجر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ؛فقد أرسل الله إلى أهل مدين رجلا منهم وهو شعيب ليبلغهم دعوة الله ويأمرهم بالتوحيد والاستقامة وينهاهم عن الشرك والمنكر ،ويحذرهم من بخس الناس أشياءهم وهو قوله تعالى:{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم} البينة ،العلامة والحجة من الله بحقيقة ما يقول لهم نبيهم شعيب وبصدق ما يدعوهم إليه من التوحيد والاستقامة .وقيل: يراد بالبينة المعجزة الظاهرة من رب العالمين مالك كل شيء .ولم يذكر ماهية المعجزة التي جعلت لشعيب: وقوله:{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أوفوا يعني أتموا .
فقد أمرهم بإتمام الحقوق لأصحابها وذلك بالكيل الذي يكيلون به ،وبالوزن الذي يزنون به من غير خيانة في ذلك ولا غش .فأيما انتقاص من حقوق الناس عن طريق الكيل أو الميزان لهو كبيرة من الكبائر تصم المنتقمين بوصمة الخيانة وفساد القلب .وذلك شكل من أشكال الحرام أو السحت الذي يودي بصاحبه إلى النار .
وفي التحذير من الخيانة في الكيل والميزان روي الترمذي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والوزن: ( إنكم قد وليتم أمرا فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم ) .
قوله: ولا تبخسوا الناس أشياءهم} من البخس وهو النقص{[1469]} فقد نهي عن كل وجوه الانتقاص من أموال الناس ظلما كالغش في المبيعات بتعييب السلعة والتدليس فيها أو التزهيد فيها لتبوء بالخسارة أو الاحتيال في الكيل والميزان بما يجر للمحتال مالا مقتطعا من نصيب العاقد الآخر .إلى غير ذلك من وجوه الحرام وأكل الأموال بالباطل .
قوله:{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} كانت الأرض قبل مبعث شعيب رسولا إلى أهل مدين ،يعمل فيها بكل المعاصي من إشراك وجور وسفك للدماء واستحلال المحارم وفعل للموبقات ،وذلك هو فسادها .أما إصلاحها: فهو ابتعاث النبي شعيب فيها يأمرهم بالخير والمعروف والطاعات ،وينهاهم عن الشرك والجور وفعل المعاصي .وفي هذه الآية ينهي شعيب قومه عن فعل المحرمات والمحظورات مما كانوا يعملونه قبل بعثه إليهم كالشرك ،وبخس الناس في الكيل والميزان ،وغير ذلك من وجوه الظلم والحرام .
قوله:{ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} أي هذا الذي بينته لكم وأمرتكم به من إخلاص العبادة لله وحده دون سواه وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والميزان واجتناب البخس والفساد في الأرض ،كله خير لكم في دنياكم ؛إذ تكسبون حب الناس لكم وتصديقهم إياكم وثقتهم بكم ،فتتبايعون وتتعاملون وتستربحون ؛فتعيشون في مودة وسعادة وتآلف .وهو كذلك خير لكم في آخرتكم يوم القيامة ؛إذ تحظون بنعيم الله ورضوانه .وذلك كله{إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم مصدقي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به او نهيتكم عنه .وقيل: إنما يجاء بمثل هذا الشرط في أخر الكلام للتأكيد .