{خَسَارًا}: خسراناً وفشلاً .
الأمراض الروحية والفكرية
في القرآن أكثر من حديث عن المرض الروحي والفكري ،الذي يترك آثاره سلبياً على حركة الإنسان في الحياة ،ويبعده عن الوضع الطبيعي الذي يتمثل بالفطرة الإنسانية الهادية التي تقوده إلى خط التوازن ،وتجعله يواجه المشاكل الفكرية بالتأمُّل والبحث والحوار ،فلا يضيق بأيّة مشكلة تواجه قناعاته ،ولا يتجمّد أمام حالة تعصب ،ولا يرتبك في قرارته أو يعيش حالة الحيرة ،بل يتعامل مع المسألة الفكرية من موقع المسؤولية على مستوى القناعة والموقف .ومن هنا ،كان النفاق مرضاً في القلب وفي الواقع ،كما كان الكفر كذلك ،لأن الكفر يمثل الانحراف عن خط التوحيد ،من خلال عدم الارتفاع إلى مستوى مسؤولية الفكر المنطلق من مواقع الحجة ،والاستسلام للمزاج الذاتي الباحث عن التنفيس عن عقدته بالهروب إلى أجواء اللامبالاة بعيداً عن الحوار .أما النفاق ،فإنه يمثل الخلل النفسي الذي يعيش فيه الإنسان التذبذب العملي بين مفهومَيْ الفكر والموقف ،وبذلك يعمل المنافق على خداع نفسه وخداع غيره ،طلباً لبعض المكاسب والأطماع الشخصية .ويتفرّع عن هذا المرض الكثير من النتائج السلبية على حياته وحياة الناس من حوله ،من خلال ما يتحرك به من حركات معقّدة ،وما يثيره من أوضاع الاهتزاز الاجتماعي ،وما يواجهه من انتماءات متنقلة ،تتقلب في الساحة تبعاً للرياح القادمة إليها من قريب أو من بعيد ،فيسيء بذلك إلى سلام المجتمع ،في واقعه الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والأمني ...
الصحة الروحية
وجاء القرآن ليثير الاهتمام بالصحة الروحية ،بالقوة نفسها التي يعيش فيها الإنسان الاهتمام بالصحة الجسدية ،وليؤكد على خطورة النتائج السلبية على قضية المصير في الدنيا والآخرة ،وليعرّف الناس ملامح هذا المرض في الفكر والسلوك والعلاقات ،ويفتح لهم المجالات الواسعة لالتماس الشفاء من مواقعه ،بالتركيز على صفاء الفطرة ،واستقامة الفكر ،وانفتاح الروح ،ومسؤولية الحركة والموقف في الخط العام الذي يؤكد على المبدأ والمنهج ،وفي الخطوط التفصيلية التي تضع التطبيق السليم في خدمة النظرية .وفي هذا الاتجاه ،كان الإلحاح على تزكية الروح من الداخل حتى العمق ،وعلى تعليم الكتاب الذي يثير النظرية في خطوطها العامة والخاصة ،وعلى تعليم الحكمة التي تعرِّف الإنسان مواقع التحرُّك في دراسة الساحة من حيث الشخص والجوّ والظروف .
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ} لمن قرأه وتدبّره ووعاه وعمل به ،وحمله دعوةً مفتوحةً للحياة كلها وللناس كلهم ...في روحٍ مليئة بالجدية والاهتمام والمسؤولية ،وبذلك يعرف كيف تكون سعادة الروح ،ونظافة الضمير ،وسلامة الوجدان ،وصفاء الفطرة ،واستقامة الحياة ...ويلتقي بالصحة النفسية من أقرب طريق ،فيكتشف كيف يكون الفكر أساساً للقناعة ،وكيف يكون الحوار وسيلةً للوصول إلى مواقع الوحدة أو التفاهم ،وكيف تكون الصراحة أداةً لاكتشاف الحقائق ،وكيف يكون التعاون قوّةً للساحة ،وكيف يكون الانسجام بين القناعة والموقف مظهراً للقوة ،فيلتقي بالإيمان القائم على الحجة ،وبالمسؤولية المرتكزة على الوضوح ،وبالإخلاص المنطلق من خط التقوى وقاعدة الحق .
{ورحمة للمؤمنين} في ما يفتح قلوبهم على النور الذي يتفايض بالعلم واليقين والإيمان ،ويدفع مواقفهم إلى التكامل أو الوحدة أو اللقاء ،ويهذب نفوسهم بالطهر والعفّة والصفاء ،ويحقق لهم الكثير من النتائج الإيجابية على صعيد التخطيط الدقيق للفكر والشريعة والحياة ...وبذلك تتحول الرحمة من عاطفة في القلب ،وإحساس في الشعور ،إلى حركةٍ واعية مليئة بكل ما يغني التجربة ،ويعمّق الوجود .إنها رحمة الفعل ،لا رحمة الانفعال .
خسارة الظالمين
{وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} هؤلاء الذين يعيشون اللامبالاة والاسترخاء أمام حاجات الجسد ،وينتقلون من خسارةٍ إلى أخرى في طريقتهم في الحياة ،وأسلوبهم في حركة العلاقات وطبيعة الانتماءات ،القائم على سياسة اللف والدوران ،فيفقدون سلامهم النفسي والعملي ،ويتخبّطون في الحيرة والارتباك ،ويتحركون في نفق الضياع ...وتأتي آيات القرآن لتضعهم وجهاً لوجه أمام الربح الحقيقي ،الذي يؤمِّن لهم سلامة الدنيا والآخرة ،ويحقق لهم سعادة الروح إلى جانب سعادة الجسد ،ويقدم لهم ذلك كله بطريقةٍ تفصيلية في آياته البيّنات ،وفي تشريعاته الحكيمة ،وفي منهجه القويم ،فيرفضون ذلك كله ،فيخسرون بذلك كل الخير في الدنيا ،ويضيفون إليه خسارة المصير في الآخرة ،عندما يواجهون الحساب الدقيق الذي ينتهي بهم إلى عذاب النار ،جزاءً على ما أنكروه من حقائق ،وما فرّطوا فيه من مواقف ،وما أجرموا به من أعمال .