{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فتحرّكوا في مواقع التّيه ،وعاشوا في أجواء الضياع الروحي والفكري والعملي ،بعيداً عن الخطوط المستقيمة التي تؤدي إلى ساحات الأمان حيث الفلاح والنجاة والنجاح .وهم ،في ذلك كله ،يطلقون الأفكار في أكثر من اتجاهٍ ،ويخططون للمشاريع على أكثر من صعيدٍ ،ويثيرون المشاعر في أكثر من مجتمعٍ ،فيستسلمون للفكرة الخادعة التي توحي إليهم بأنهم على حقٍ ،في الوقت الذي يتخبطون فيه في الباطل ،وتخيّل إليهم أنهم في مواقع الخير يتحركون ،بينما هم في أوحال الشر يتخبطون ،فيسيئون إلى أنفسهم وإلى من حولهم وإلى الحياة في ذلك كله ...{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ثم تنكشف لهم الحقيقة ،فيسقطون صرعى الخيبة الكبيرة والخسران العظيم والحسرة الكبرى .
وهؤلاء موجودون في كل زمانٍ ومكانٍ في أحد فريقين:
الفريق الأول: الناس الذين يخضعون للتوجيه السيّىء والتخطيط الشرّير ،فيحملون الفكر الشيطاني في حركة العقيدة ومنهج الحياة تحت وطأة أجواء الخديعة والتضليل ،يقدسونه ويعظمونه ويرون فيه الخلاص كل الخلاص ،والنجاح كل النجاح ،لأنهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كل جانبٍ ،فلم تترك لهم نافذةً يطلون منها على الاحتمال المضاد والفكر الآخر .
الفريق الثاني: الناس الذين يعرفون الحق ،ولكنهم يتمردون عليه ،ويعملون على أساس الانحراف عنه لأنه لا يتفق مع أطماعهم ،ولا يخضع لشهواتهم ،ولا يحقق لهم امتيازاتهم في الحياة ...ولذلك فهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً آخر ،ويتبنون فكراً آخر يتكلفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنه سبيل النجاة ،لأنه يحقق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخية السعيدة ،والعيش العزيز الكريم ،ويبقون يلفّون ويدورون حتى تتعمق الفكرة داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها ...وربما كان الكافرون من هذا الفريق ،لأن القرآن لا يجد الكفر ناشئاً من حالة شبهة مضادّة ،بل من حالة فكرةٍ متبنّاةٍ من خلال الأهواء والمطامع .وهذا ما أرادت الآية التالية أن تثيره ،كنموذجٍ لهؤلاء الناس الضائعين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لأنفسهم وللآخرين .