{يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا}: يكبرا ويعقلا .
سبب إصلاح الجدار
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} مما أوجب رعاية الله لهما في غياب أبيهما الذي اختاره الله إليه ،{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} ليعيشا حياةً طبيعيةً كريمةً ،فلا يضيع كنزهما تحت تأثير سقوط الجدار الذي يكشف عن موقع الكنز فيتناهبه الناس ،ولذلك فلم تكن المسألة خدمةً لأهل القرية الذين لا يعيشون قيمة العطاء ولا يستحقون الكرامة من الآخرين ،بل رعايةً لهذين اليتيمين جزاءً لصلاح أبيهما .
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ليكون حالةً ذاتيةً تخضع للنوازع الخاصة ،بل هو أمر اللهسبحانهالذي أراد له أن يقوم بما قام به ،في حال مصاحبته لموسى( ع ) ،ليعلِّمه من خلال التجربة كيف يصبر على مواجهة الأشياء التي قد تجد لها تفسيراً في العمق غير ما يلوح على السطح .وكيف يعيش التواضع للعلم ،فلا يكون موقع النبوة ،بما يمثله من مستوى روحيٍّ عظيمٍ ،مانعاً له من أن يسعى للانفتاح على علمٍ جديدٍ ،وللتواضع لأهله .
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} لأنك واجهت الأمور في ظواهرها ،ولم تواجهها في مواقعها الخلفية العميقة .
كيف نفهم القصة ونستوحيها ؟
يلفت نظرنا في هذه القصة عدة نقاط:
1الأسلوب الوديع الذي يعبّر عن روح التواضع للعلم والعلماء ،من دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلم ،فنحن نجد الأدب الرسالي في هذه الكلمات الهادئة المتعطشة للعلم التي خاطب بها موسى ( ع ) هذا العبد الصالح: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً » .
2الأسلوب الواقعي الذي يعبِّر عن الروح العملية التي يعيشها العالم تجاه المتعلمين ،بعيداً عن أيّة مجاملة تفرضها الأوضاع الاجتماعية ،أو أيّ أسلوب من أساليب اللف والدوران التي تحاول خداع الآخرين ،لتجعل منهم أرقاماً تضاف إلى أرقام الأتباع الموجودين الذين يشاركون في تضخيم شخصية الأستاذ ،من دون ملاحظة لاستفادتهم منه أو قابليتهم للتعلُّم والانتفاع بعلمه .
فقد لاحظ هذا العبد الصالح أنه يختلف عن الآخرين في طبيعة معرفته بالواقع ،فهم يلتقون بالجانب الظاهر منه ،بينما يعتبر نفسه مطلعاً على الجوانب التي تختفي وراء الصور الظاهرية المألوفة للأشياء ،ما يجعلهم يرفضون أو لا يتحملون طريقته في العمل وأسلوبه في معالجة هذا الواقع ،وسوف لن يتقبلوها في نهاية المطاف .وبذلك تفقد الصحبة فائدتها ،وتتحول إلى مزيد من المجادلات والمخاصمات التي لن تكون في مصلحة أحدٍ ،ولا في مصلحة الحقيقة على أي حال .
وعلى ضوء هذا ،أوضح له طبيعة سلوكه الذي يتعارض مع المألوف ،وأعلن لهمقدّماًأنهأي موسى( ع )لن يستطيع معه صبراً ،لأن الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يُحط بمعرفته ،فلم يكن من موسى( ع ) إلا أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة ...وكانت تعليمات العبد الصالح أن لا يسأله موسى( ع ) عن كل شيء يشاهده ويثير استغرابه ،أو يرسم علامات الاستفهام في ذهنه ،مهما كان الشيء مثيراً أو غريباً ...وينتظر حتى يبدأههوبالحديث عنه وعن كل شيء شاهده ورآه .
وبهذا كانت العلاقة المتبادلة بينهما علاقة صحبة ترتكز على السعي نحو المعرفة في إطار من الانضباط والواقعية .
3إن القضايا التي قام بها هذا العبد الصالح ،كانت تتحدى صبر موسى( ع ) بما أثارته من خروج عن الخط الشرعي ،كما في قضية قتل الغلام ،وخرق السفينة ،لما في الأول من اعتداء على الأموال وتعريض الآخرين للخطر من دون حق ،ولما في الثاني من اعتداء على الحياة بدون ذنب ،وكما في حادثة تثبيت الجدار وما أظهرته من إهمال لمبدأ استغلال الطاقة التي يملكها الإنسان ،من أجل حماية نفسه من الجوع ،لا سيما مع الأشخاص الذين لا يعيشون القيم في حياتهم العامة ...ولهذا كانت احتجاجات موسى( ع ) تتلاحق وتشتد في كل حالة من هذه الحالات ،حتى كانت الحالة الأخيرة التي سبقها التعهُّد الأخير بالصبر من قِبَل موسى( ع ) ،وإعطاء صاحبه الحرية في أن يفارقه ،إذا استمر في إثارة السؤال وفي نفاد الصبر .
وهكذا كان ،ولم يستطع موسى( ع ) الصبر في الحالة الأخيرة ،وبدأ العبد الصالح ،بعد أن نفّذ تهديده بالفراق ،يشرح لموسى( ع ) كل شيء ،ويوضح له طبيعة الأعمال التي أثارت استنكاره ،وكيف كانت مرتبطة بأمر الله ،لا برأيه الشخصي .وليس من شأن هذا البحث ،أن ندخل في الحديث حول تقييم هذه الأعمال ،من حيث انسجامها مع الخطوط المألوفة للشريعة ،أو اختلافها عنها ،وخضوعها لحالة استثنائية اقتضتها طبيعة تلك الحالات الخاصة ...فإن لذلك بحثاً آخر ،لا مجال له الآن .
بل كل ما نريده هو الاستفادة من الجو الذي عشناه في هذا الحوار ،بتقرير فكرتين أساسيتين ،تدخلان في نطاق عمل الداعية إلى الله والعامل في سبيل رسالته ..
أإن على الداعية أن يعيش الانضباط والصبر والصمت في الحياة العملية التي تتحرك في اتجاه ممارسته المسؤولية ،إذا كانت الجهة التي يتبعها أو يتعاون معها في مستوى الثقة الفكرية والدينية والعملية التي تبرِّر له أمر الاعتماد عليها ،والسير معها ،فلا يسارع إلى الاعتراض في ما يوجّه إليه من أوامر ،وما يشاهده من أعمال تخالف ما هو مألوف لديه ،لأن ذلك قد يوجب الارتباك في العمل ،والخلل في انضباط الصفوف ...بل يؤخِّر ذلك إلى الظرف المناسب والمكان المناسب ،حيث يكون ،من الممكن ،من وجهةٍ عملية ،القيام بما يريده من إثارة السؤال والجواب .
بإن على المؤمنين أن يتقبلوا بالصبر والتسليم ما يُلقى إليهم من أحكام الله ،مما لا يتفق مع الأفكار التي يألفونها ،لأن اللهسبحانهأعلم بجهات الصلاح والفساد ،فإذا حدثت لديهم شبهةٌ في أي أمر من ذلك ،فليتهموا أفكارهمفي البدايةوليحاولوا البحثبعد ذلكعن طبيعة الحكم وحيثيته ،ليصلوا إليه ،في نهاية المطاف .