الموقف من حسد أهل الكتاب:
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
في هذه الآية جانبٌ من التوعية العملية ،وجانبٌ من الأسلوب الرسالي في التخطيط السليم لحركة الدعوة الإسلامية في علاقة المسلمين بأهل الكتاب ،فقد أراد اللّه لهم أن يفهموا أنَّ أهلَ الكتاب لم ينطلقوا في معارضتهم لهم من موقع الشبهة الفكرية التي تجعلهم يقفون موقف الرفض للدعوة التي يعتقدون خطأها ،أو موقف الحيرة التي تجعلهم يتردّدون بين القبول والرفض ،بل كان الدافع لذلك الحسد القاتل الذي يتحرّك من موقع المحافظة على الامتيازات الذاتية القديمة التي يخافون عليها من الزوال أمام قوّة الرسالة الإسلامية وتقدمها ،ولهذا فإنهم يودونفي داخل أنفسهملو يستطيعون إرجاعكم إلى الكفر والشرك والوثنية مما يتنافى مع عقيدة التوحيد التي يزعمون الإيمان بها ،فلو كانوا منسجمين مع هذه العقيدة ،لكان خطّ الإسلام أقرب إلى خطّهم في أغلب الأمور التي يؤمنون بها ،ويؤكد القرآنفي هذا المجالأنَّ الحقّ قد تبيَّن لهم بأسلوب لا يرقى إليه الشك ،الأمر الذي يبطل كلّ حجّة مضادّة لديهم في العقيدة .
ثُمَّ أراد اللّه للمسلمين أن يعفوا ويصفحوا ،وذلك من موقع التخطيط العملي الذي يعتمد على سياسة المراحل في حركة القوّة ،فلا يمارس القوّة إلاَّ بعد استنفاد الوسائل السلمية التي تفتح للكافرين والمعارضين باب الدخول في الإيمان والسير في خطّ السلم ،وعرّفهم أنَّ عليهم أن لا يتشنجوا ويستسلموا للانفعال النفسي المنطلق من الرغبة في التدمير على أساس ما يملكون من قوّة ،فإنَّ للقضية حداً لا بُدَّ أن تبلغه ،وذلك عندما يأتي اللّه بأمره في تشريع القتال ،سواءٌ في ذلك المشركون وأهل الكتاب ،فإنّ اللّه لا يفوته أحد مهما امتدّ في قوّته وطغيانه لأنه على كلّ شيء قدير .
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}من الذين لم ينفتحوا على الرسالة من موقع الإيمان ،ولم يعملوا على مواجهة الوحي بذهنية الحوار ،ولم يرتاحوا إلى الدِّين الجديد الذي لا يبقى معه مجال لدين آخر سابق ،باعتبار أنه الدِّين الذي يجمع خلاصة الأديان السابقة ويزيد عليها بما يحقّق للحياة المتجدّدة الحل للمشاكل الطارئة التي اقتضاها تغيّر الزمن وتطوّره ،والذي يضع حلولاً جديدة للمشاكل السابقة التي لم يعد الحل الموضوع لها متناسباً مع مرور الزمن ،الأمر الذي يفرض تغييرها إلى الأفضل ،وهذا ما يؤدي إلى زوال سلطانهم وتأثيرهم على المجتمعات ،باعتبار أنهم من أهل الكتاب الذين هم المرجع للنّاس الذين يلتزمون الدِّين ممن يؤمنون باللّه ،ليعودوا إليهم في كلّ ما يجهلونه من أمور الدين الذي يملك هؤلاء علمه .وهذا ما جعلهم يفكرون{ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}لتعودوا إلى الشرك الذي كنتم فيه ،لأنَّ المسألة لديهم لا تنطلق من التزامهم الواقعي بالإيمان باللّه وبالرسالات وبالرسل مما يدعو إليه الإسلام ويؤمن به المسلمون ،ليكون الإيمان أقرب إليهم في واقع المؤمنين من الشرك ،بل هي عقدة ذاتية تربط الإيمان بهم في كلّ خصوصياته ؛فمن كان معهم كان خروجه من الشرك فضيلة ،ومن لم يكن معهم كان خروجه مشكلةً لا بُدَّ أن يواجهوها بالرفض حتى لو كانوا مؤمنين من ناحية المبدأ .
{ حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}كأي شخص يجد النعمة لدى غيره فيتمنى أن تكون له ،فلا يقبلون أن تنتقل النبوّة إلى محمَّد ( ص ) ليكون كلّ مجدها وشرفها وحركيتها له ولأتباعه .إنها عقدة الحسد الذي ينهش قلوبهم فيتحوّلون إلى واقع العداوة ،كما نقل في أسباب النزول عن حييّ بن أخطب وأخيه أبي ياسر اللذين دخلا على النبيّ محمَّد ( ص ) حين قدم المدينة ،فلما خرجا قيل لحييّ: أهو نبيّ ؟فقال: هو هو .فقيل: ما له عندك ؟قال: العداوة إلى الموت .وقد تطوّر أمره حتى أنه نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب .{ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}ممّا عرفوه من دلائل نبوّته في التوراة ،وكانوا يستظهرون به على الذين كفروا ،فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .{ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ} ولا تدخلوا معهم في حرب ،بل سالموهم على أساس السلم الذي فرضته المعاهدة التي دخلتم فيها معهم ،مما يلزمكم بالتغاضي عن كلّ نياتهم السيئة وعقدتهم العدوانية ،على الرغم من قوتكم في المجتمع المسلم المدني الذي تملكون فيه القوّة التي تستطيعون من خلالها أن تنتصفوا منهم .{ حَتَّى يَأْتِىَ اللّه بِأَمْرِهِ}عندما تأتي الساعة التي يأذن اللّه فيها بجهادهم من خلال نقضهم العهد من الناحية العملية ،وإعلانهم العداوة للمسلمين بالتحالف مع المشركين ضدّكم ،لتكون لكم الحجة عليهم في صعيد الواقع .{ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يمهل عباده ،فلا يعجل لهم العقوبة ولا يؤاخذهم بالعذاب من خلال أنه لا يخاف الفوت الذي يوحي لصاحب الحقّ بالاستعجال ،ولأنَّ الحكمة قد تدعو إلى ذلك من خلال المصالح العامة المترتبة على ذلك في واقع التعايش الطبيعي بين المسلمين وأهل الكتاب ما داموا سائرين على العهد في خطواتهم العملية ،لأنَّ الدوافع السيئة لا تكون أساساً للعقاب .