ثُمَّ يتابع القرآن تحديد الأسس التي تنطلق من خلالها الحجّة:{ بَلَى} ،ليس الأمر كما تقولون يا أصحاب الأماني ،فلستم أهل الجنّة ،لكن أهلها
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} .فالآمنون يوم القيامة هم الذين يسلّمون وجوههم للّه في الفكر والعقيدة والعبادة ،فلا ينطلقون في فكر أو عقيدة إلاَّ إذا كان ينسجم مع الحقيقة المنسابة من وحي اللّه ،ولا يدخلون في عبادة إلاَّ من خلال تجسيدها للمعنى الحقّ لعبودية الإنسان للّه ،فلا يشركون بعبادته غيرَه ولا يعبدون سواه .{ وَهُوَ مُحْسِنٌ} ،وهم الذين لا يعيشون هذا الإسلام في حياتهم الداخلية فحسب ،ليتجمد في لحظات التأمّل والفكر والخشوع الروحي المنساب في أجواء صوفية غامضة حالمة ،بل يتحوّل في حياتهم العملية إحساناً للحياة وللآخرين في كلّ ما يستطيعون أن يقدّموه من أعمال وخدمات ،وفي كلّ ما يملكون تفجيره من طاقات ،فلا يعيشون الأنانية في قواهم التي يملكونها ولا في فكرهم الذي يعيشونه ،بل يعتبرونها ملكاً لهم وللحياة والإنسان ،لأنها هبة اللّه ونعمته الملتزمة بحدود المسؤولية ،فلا بُدَّ من أن تتصاعد في حياتهم صلوات عملية خاشعة في رحاب اللّه .{ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}بما قدّموه من عمل ،وبما عاشوه من إيمان ،لأنَّ الإنسان الذي يُسلم وجهه للّه في كلّ توجّهاته في الحياة ،وفي كلّ تطلّعاته المستقبلية ،وفي كلّ علاقاته الإنسانية ،يرتبط باللّه بأوثق الروابط ،ويرتفع إليه بأعلى درجات القرب ،ما يجعله محبوباً من اللّه ،قريباً إليه ،مرضيّاً عنده ؛وهذا ما يشكل الأساس لكي لا يخاف الإنسان من أيّ شيء مما يخافه النّاس عادة ،فالمتقون في حرز من الخوف في الدنيا والآخرة معاً ،كما أنَّ الحزن لا معنى له في وعي الإنسان الذي تتجمّع في روحه كلّ عناصر السرور والفرح الروحي ،انطلاقاً من حصوله على رضوان اللّه الذي هو مصدر كلّ سعادة من خلال خوفه من اللّه وحده دون سواه ،فحصلوا من ذلك على محبته ورضاه ونعيمه ،ولعلّ التعبير بعبارة:{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}بدلاً من لا يخافون ،للإيحاء بأنَّ الخوف لا وجود له في ذاته بعيداً عن الجانب الذاتي للشخص .وقد يستوحي الإنسان من إحساس المؤمن بمستقبله البعيد عن الخوف والحزن أمام واقع المصير بالآخرة ،أنَّ ذلك يزيده قوّة واطمئناناً ،فلا يخاف ولا يحزن من ضغط الآخرين في ساحة الصراع ،لأنه يملك الثقة باللّه في خطّ رعايته له ،على هدى الآية الكريمة في الحديث عن مشاعر النبيّ محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) في ليلة الهجرة:{ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا}[ التوبة:40].
وفي الحديث عن المسلمين:{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس إِنَّ النّاس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [ آل عمران:173] .
فهل يملك هؤلاء الذين يحتكرون لأنفسهم الجنّة مثل هذه الركائز الفكرية والعملية ،أم ماذا ؟إنَّ القرآن يوحي للإنسان بكلّ ما تحمله كلمة «ماذا » من استفهام إنكاري يبحث عمّا يطرح عليهم ،فلا يجد له جواباً إلا الصمت المشبع بالشعور العميق بالذنب في أعماق المجرمين .