أبشع الظلم الاعتداء على مساجد اللّه:
إنَّ من أبشع أنواع الظلم هو الاعتداء على مساجد اللّه وعلى حرية المؤمنين فيها ،وذلك بمنعهم من الصلاة والدعاء وذكر اسم اللّه .{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}في منع المصلين من الصلاة فيها{ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ}مادياً بتهديمها أو معنوياً بالمنع من عمارتها بالعبادة .
أمَّا إنّه من أقوى أنواع الظلم ،فلأنه يجمع بين الاعتداء على حرمة اللّه بالاعتداء على بيوته وإبطال دورها في العبادة ،وبين الاعتداء على حرمة الإنسان بالاعتداء على حريته في ممارسة شعائره وعباداته ؛{ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ}وقد أراد اللّه للمسلمين أن يأخذوا بموقف القوّة ضدّ هذا الظلم والظالمين ،فيمنعوهم من دخولها إلاَّ كدخول الخائفين ،وذلك على سبيل الكناية في تدمير قوّتهم وإضعافهم ،حتى يتحرّكوا في المجتمع تحرّك الخائف الذي إذا أراد أن يدخل المسجد ،فلا يدخله إلاَّ خائفاً ،ثُمَّ يتوعدهم اللّه الذي يملك القوّة في الدنيا والآخرة بالخزي في الدنيا{ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}وذلك من خلال ما يصيبهم فيها من ضعف وهوان وذلّ بسبب تصرّفاتهم الظالمة الباغية ،{ وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ما معنى خراب المساجد ؟
وللمفسرين خلاف في هؤلاء المقصودين بالآية ؛هل هم الروم الذين «غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه ،حتى كانت أيام عمر ،فأظهر اللّه المسلمين عليهم وصاروا لا يدخلونه إلاَّ خائفين » ،كما روي عن ابن عباس ومجاهد ؛أم أنهم قريش حين منعوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) دخول مكة والمسجد الحرام ،كما روي عن أبي عبد اللّه جعفر الصادق ( ع ) ،وبه قال البلخي والرماني والجبائي ؟ [ 1] .
وقد علّق الطبري في تفسيره على هذا الرأي بأنَّ قريشاً لم يسعوا في تخريب المسجد الحرام ،وبأنَّ هذا لا يتناسب مع الآيات المتقدّمة الواردة في سياق ذمّ أهل الكتاب ،بينما ينسجم الرأي الأول معه[ 2] .ولكنَّنا نرى مع صاحب مجمع البيان ،أنَّ من الممكن أن يكون المراد من خرابها تعطيل دورها في العبادة ،لأنَّ ذلك هو الأهم في وجودها ،وهذا ما نستوحيه من التركيز على المنع عن ذكر اسم اللّه فيها في بداية الآية ،ما يوحي بأنَّ القضية تعيش في هذا الجوّ .وقد ورد في التفسير في قوله تعالى:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّه مَنْ ءَامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ}[ التوبة:18] ،أنَّ المقصود بالتعمير ،هنا ،تعميرها بالعبادة .وقد جاء في بعض الكلمات المأثورة في أخبار آخر الزمان في صفات النّاس آنذاك: «مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى »[ 3] ،مما يقرّب إرادة هذا المعنى في نطاق هذا التعبير .
وربما كان من القريب أن يكون السعي بالخراب لا يعبّر عن واقعٍ مباشر في حياة قريش في مكة ،بل يعبّر عن نتائج السعي في تخريب الإسلام وتدميره بما أثاروه من حروب ضدّه وحاولوه من إضعافٍ لقوّته ،وقد يتأيّد ذلك بالتعبير بكلمة «المساجد » بصيغة الجمع ،مع أنها ليست متعدّدة في مكة أو في بيت المقدس ،ما يرجّح أنَّ الآية لم تجر مجرى الحديث عن القصة في نطاقها الخاص ،بل جرت مجرى الانطلاق منها كنموذج للتحدّث عن الفكرة العامة ،ما يجعل أجواء الآية قريبة من التعبير عن الروح التي يعيشها أمثال هؤلاء ممن يحملون عقلية قريش وروحيتها ،فتدفعهم إلى خنق حرية المؤمنين وإلى السعي في خراب المساجد .
وقد روى صاحب مجمع البيان ،أنَّ الرِّواية قد وردت بأنَّ القرشيين قد قاموا بهدم مساجد كان أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يتخذونها أماكن للصلاة لما هاجر النبيّ إلى المدينة ،وبذلك لا يبقى مجال لاعتراض الطبري[ 4] .
ولكنَّنا لا نستقرب هذا الوجه ،لأنَّ الآية تتحدّث عن حالة قائمة يتحرّك فيها هؤلاء القوم للمنع من ذكر اسم اللّه والسعي في خراب المساجد ،لا تخريبها بعد رحيل المسلمين إلى المدينة .أمّا قضية الانسجام مع سياق الآيات المتقدّمة ،فإننا لا نرى رأيه في اختصاص الحديث بأهل الكتاب ؛بل الظاهر أنَّ الحديث قد تعداه إلى غيرهم من المشركين ،لأنَّ السياق قد تحرّك في اتجاه توعية المسلمين في ما يتعلّق بأوضاع الفئات التي تقف ضدّهم ،كما لاحظناه في الآيات التي تحدّثت عن المشركين وأهل الكتاب معاً .
ونلاحظ في الآية أنها لم تتحدّث عن دخولهم خائفين كواقع حيّ ليشار إلى القصة في تفسير الآية ،بل إنها تحدّثت عمّا ينبغي أن يبلغه المسلمون من القوّة التي تخيف الكافرين ؛فإذا جاءوا إليهاوهي مراكز المسلمين القيادية والاجتماعيةدخلوها دخول الخائف ،سواء كان مجيئهم إليها لأجل الدخول في الإسلام أو لغير ذلك من الأغراض الأخرى .