{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَئتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجنّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .يؤكد القرآن في هاتين الآيتين القاعدة للخلود في الجنّة أو في النّار ،بعيداً عن كلّ الامتيازات ،أو الاستثناءات المتوهمة للأشخاص أو للأمم ،فليس في الآخرة طبقات على المستوى المعروف لدى النّاس في الدنيا ،لأنَّ الطبقية هنا تنشأ من حصول الإنسان على امتياز ماديّ أو معنويّ ،يتميّز به عن غيره ،فيجعل له قيمةً متميّزة لدى سائر النّاس ؛أمّا في الآخرة ،فالجميع متساوون أمام اللّه ؛فلا علاقة لأحد باللّه أكثر من غيره ،من ناحية ذاتية ،لأنهم مخلوقون له ،ومن ناحية الصفات ،لأنها هبةٌ من اللّه ،فلا مجال هناك إلاَّ للعمل وحده ،فهو القيمة الأولى والأخيرة التي ترفع مستوى الإنسان عند اللّه ،ولهذا كانت قضية الجنّة والنّار خاضعةً للعمل لجهة خلود الإنسان في الثواب والعقاب ؛فأمّا الخالدون في النّار فهم الذين واقعوا الخطيئة من قاعدة روحية وفكرية وعملية ،فهي محيطة بهم من كلّ جانب وليست شيئاً طارئاً مما يحدث للإنسان ،كنتيجةٍ لنزوة سريعة .إنهم يعتقدونها ثُمَّ يعيشونها فكراً وشعوراً وعملاً ،وهؤلاء هم المجرمون المتمرّدون الذين يواجهون الحقّ من موقع الوضوح في الرؤية ،ولكنّهم يصرّون على الابتعاد عنه والتمرّد عليه ،والمتاجرة بكلماته بعيداً عن روحه ،والتحريف لآياته ؛وهؤلاء هم الذين لا يتطلعون إلى الإيمان باللّه بروحية منفتحةٍ تخشع أمام ذكره وتخضع لآياته ،وتستسلم لأوامره ونواهيه ،بل يمرون مروراً سريعاً ،تماماً كأية فكرة طارئة ،أو وهم زائل ،وهؤلاء هم الظالمون الذين يفسدون في الأرض ويبغون فيها بغير الحقّ ،وينازعون اللّه سلطانه وكبرياءه ،عندما يخيَّل إليهم أنهم آلهة صغار ،من خلال نوازع الكبرياء والعظمة الذاتية ،التي توحي بها السلطة في مظاهر القوّة والسلطان ،أو الذين يشركون بعبادة اللّه غيره ،مما يصنعونه بأيديهم من الخشب والحجر وغيرهما ممّا يصنع منه الأصنام ،أو ممّا يصنعونه بطاعتهم وخضوعهم من أصنام اللحم والدم من الطغاة والمستكبرين الذين يصنع منهم الأتباع آلهة وسادة ،ولولاهم ما كانوا شيئاً مذكوراً .
هذه هي النماذج التي تكسب الخطيئة من موقع القاعدة ،هم أصحاب الخلود في النّار ،وهم الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء اليهود الذين لم يتركوا خطيئة إلاَّ ومارسوها بكلّ قوّة وعزم وتصميم ،من التمرّد على الأنبياء ،وقتلهم الأنبياء بغير حقّ ،وتحريف كلام اللّه ،والمتاجرة بالأكاذيب والبدع ...وغير ذلك ،ما يدل على وجود أساس روحي أو فكري للتمرّد والطغيان ،أو يوحي بأنَّ علاقتهم باللّه لا تمثّل شيئاً كثيراً في حياتهم ليندفعوامن خلالهفي طريق الطاعة والتوبة ؛فكيف يرون لأنفسهم هذا الامتياز الإلهي الذي يؤمنهم من الدخول في النّار ؟
وأمّا الخالدون في الجنّة ،فهم الذين عاشوا الإيمان في نفوسهم فكراً وشعوراً وروحانية ،فهم يقفون أمام اللّه موقف المؤمن الذي يحسّ وجوده بمشاعره ،كما يتعقله بفكره ،وهم الذين يعيشون الإحساس بالعبودية المطلقة التي تدفعهم إلى الخضوع والخشوع والاستسلام للّه في أعمالهم ،ولكنَّهم قد يخطئون ويتمرّدون نتيجة نزوة سريعة أو هفوة طارئة مما يدخل في حساب الغفلة والنسيان ووسوسة الشيطان ،من دون أن يكون هناك أساس نفسي أو فكري يشجع على ذلك ويدفع إليه ،ولهذا نجدهم يتراجعون عند أوّل حالة انتباه أو تذكر أو يقظة ضمير ،كما حدّثنا اللّه عنهم في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[ الأعراف:201] فهؤلاء هم أصحاب الجنّة المتقون ،الذين عاشوا روحيتها في روحيتهم ،وأخلاق أهلها في أخلاقهم في الأرض قبل أن ينتقلوا إليها .
{ بَلَى}ليس الأمر كما قالوا وزعموا زعماً بعيداً عن كلّ حقيقة ،بل المسألة خاضعة لقاعدة ثابتة في ثواب اللّه وعقابه ،مما لا يرجع إلى امتيازات ذاتية لإنسان معين أو شعب معين .{ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}عميقة الجذور في ذاته بحيث كان لها الدور الكبير في تغيير كلّ فكره وعمله في الاتجاه السلبي ،ليكون إنساناً محاصراً من كلّ جهة ،فلا ينفذ إلى عقله شيء من الحقّ ،ولا إلى حياته شيء من الخير ،فقد أطبقت عليه ضلالته{ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيَئتُهُ}من كلّ جانب ،فأينما يتوجه ويتحرّك فهناك خطيئة في فكره وفي عمله .
ولعلّ الشرك الذي لا يغفره اللّه هو التجسيد الحيّ لهذه السيئة التي يكسبها الإنسان فتبعده عن اللّه في توحيد العقيدة والعبادة ،ويستغرق في الصنمية التي تحوّل حياته إلى جدارٍ مسدود لا مجال فيه للأفق الواسع ،وإلى كهف مظلم لا ينفذ إليه النور من أية جهة ،فيكون هذا الإنسان خطيئة متجسدة في حركة الباطل والشرّ والفساد في واقعه الداخلي والخارجي ،{ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأنَّ مثل هؤلاء لا يرتبطون باللّه بأية رابطة تنفذ منها رحمته وينفتح عليهم رضوانه ،ما يجعل الخلود في النّار هو النهاية الطبيعية التي ينتهون إليها .