في هذا الفصل من حديث بني إسرائيل ،عودة معهم إلى الأصول التي ارتكز عليها التشريع الإلهي في التوراة ،مما كان يدخل في حساب تنظيم الحياة الاجتماعية المرتكز على أساس التوحيد الذي تلتقي عليه كلّ التشريعات ..ثُمَّ يبدأ بالمقارنة بين الصورة كما أرادها اللّه ،وبين الواقع المتمثّل في ممارساتهم العملية وفي علاقاتهم الاجتماعية ،فنكتشف من خلال ذلك الفرق الشاسع بين مستلزمات الإيمان وبين واقع الممارسة .
فقد أراد اللّه من بني إسرائيل أن يوحّدوه فلا يعبدوا غيره ،وأن تكون علاقاتهم بوالديهم وبأقربائهم وبأيتامهم ومساكينهم مبنيّة على الإحسان الطيب ،باعتبارهم من الفئات التي تحتاج إلى ذلك ،إمّا من موقع الحاجة الذاتية ،وإمّا من موقع ارتباطها بالجانب الإنساني للعلاقات ...ثُمَّ طلب منهم أن يقولوا للنّاس حسناً في مجال المعاشرة والمحاورة ،لأنَّ للكلمة الطيبة أثرها الكبير في انفتاح القلوب على الخير والمحبة والإخلاص ،وفي انطلاق العقول مع الفكرة بعيداً عن التعصب والتعقيد والعناد والمكابرة ،ما يجعل من الكلمة رسولاً حبيباً إلى القلب والعقل ،فترتكز الحياة الاجتماعيةمن أجل ذلكعلى قاعدةٍ متينة من التفاهم والتحابب والتعاون .
وجاء بعد ذلك دور إقامة الصلاة ،باعتبارها معراجاً لروح المؤمن إلى اللّه ،حيث ينفتح الإنسان من خلالها يومياً على المعاني الروحية الواسعة الممتدة ،التي لا تضيق بالأعباء الكبيرة التي تفرضها الطاعة أو يوحي بها الجهاد ،ولا ترتبط بالحياة إلاَّ باعتبارها مجالاً من مجالات العمل والمسؤولية ،لأنَّ هذا اللقاء باللّه يملأ النفس شعوراً عميقاً بجديّة الحياة وبارتباطها بالحكمة في كلّ ظواهرها وبواطنها من خلال حكمة الخالق ،ما يجعل من السير في طريق الحقّ هدفاً كبيراً لحياة الإنسان .
أمّا إيتاء الزكاة ،فإنه يحقّق للنفس إنسانية العطاء عندما لا تختنق في دائرة حاجاتها الذاتية ومطامعها الشخصية في ما أنعم اللّه عليها من نعم المال ،بل تعيش الشعور بآلام الآخرين وحاجاتهم ومطامحهم ،فتعمل على تلبية حاجات الآخرين ،باعتبار أنَّ المال الذي يملكه الإنسان ليس شرفاً وامتيازاً له ،بل هو وظيفة ومسؤولية في ما يحتاجه أو يحتاجه الآخرون ،وبذلك كانت الزكاة عبادة اجتماعية يشترط في صحتها ما يشترط في كلّ عبادة من نيّة التقرّب بها إلى اللّه ،كما كانت الصلاة عبادةً يتقرّب بها الإنسان إلى اللّه في خضوعه لذاته المقدسة .
وتنتهي هذه المجموعة من التشريعات في هذه الآية لتبدأ عملية المحاكمة والمحاسبة والمقارنة ،وذلك في لفتةٍ سريعة للواقع الذين يعيشونه ،فنلتقي بهم وهم مُعرِضون عن ذلك إلاَّ القليلين منهم ممن آمنوا إيمان الوعي والإخلاص ،فثبتوا على خطّ الإيمان واستقاموا فكراً وعملاً في جانب المعاملة ،أو في نطاق العلاقة العامة والخاصة .
فإذا انتهى هذا الجانب من الميثاق ،بدأ جانب آخر يتصل بعلاقاتهم الداخلية .
حقّ الإنسان بالحياة والحرية:
وأخذ اللّه عليهم الميثاق باحترام النفس ،فلا يعتدى عليها بالقتل ،واحترام حرية الإنسان في بقائه في داره ،فلا يخرج منها قهراً بدون حقّ ...أمّا السرّ في التركيز على هذين الجانبين ،فلأنهما يمثّلانفي الظنّ الغالبالعنصرين الأساسيين من عناصر الحريات الإنسانية ،وهما عنصر حرية الحياة في امتدادها إلى ما يشاء اللّه من دون اعتداء ،وحرية بقاء الإنسان في أرضه وداره ،لأنَّ الحريات الأخرى متفرعة عنهما كما يظهر بالتأمّل .لقد أخذ اللّه عليهم الميثاق بالالتزام بهاتين الحرّيتين فيما بينهم ،فماذا كانت النتيجة ؟
إنها تماماً كالنتيجة في الميثاق الأول ،فلقد انطبعت حياتهم بالعدوان على النفس ،وبدأت سياسة الغلبة والقوّة تتحكم بهم ،فضيَّقوا على حرية الضعفاء الذين لا يخضعون لطغيانهم وبغيهم ،فأخرجوهم من ديارهم بالإثم والعدوان .وهنا تأتي المفارقة التي تمثّل ازدواجية المواقف إزاء علاقاتهم العامة ،فهم في الوقت الذي يستبيحون قتلهم وإخراجهم من ديارهم ،نراهم في موقف آخر يمارسون سلوكاً يوحي باحترام الإنسان ،وذلك عندما يقع هؤلاء الضعفاء أسرى في يد أعدائهم ،فإنهم يعملون على دفع الفداء عنهم لينقذوهم من الأسر .إنها مفارقة تلفت النظر ؛فإذا كانوا يؤمنون باحترام الإنسان في نفسه وأرضه ،فما معنى السلوك الأول ؟وإذا كانوا لا يؤمنون بذلك ،فما معنى السلوك الثاني ؟إنه السلوك الذي لا يرتكز على قاعدةٍ فكرية ثابتة ،بل يخضع للعوامل الطارئة من العصبية والحميَّة وغيرهما من حالات الانفعال الإنساني في العلاقات العامة ،ولهذا ينطلق القرآن ليشجب هذا الواقع ،كما في قوله تعالى:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ،فإنَّ الالتزام بالكتاب يفرض الالتزام بمفاهيمه ومواقفه وتشريعاته ،باعتباره القاعدة الأساسية للتفكير والموقف والعمل .
هذا بالإضافة إلى أنَّ الأخذ ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر ،يشوّه الصورة الحقيقية للفكرة ،وذلك كما يفعله بعض الحكام الذين يأخذون بقوانين العقوبات في الإسلام كالحدود ،فيجلدون شارب الخمر ،ويقطعون يد السارق ،ولكنَّهم لا يأخذون بالتشريعات الإسلامية في العدالة الاجتماعية ،والنظام الأخلاقي ،والتخطيط الاقتصادي ،بحيث لا ينطلق السارق من حاجةٍ اقتصاديةٍ ضاغطة بل من عقدةٍ ذاتية مستعصية ،الأمر الذي يعطي الصورة المشوّهة القاسية عن الإسلام من خلال الواقع الضاغط أمام التشريع الصعب .
وربما كانت المسألة تمثّل الازدواجية بين العقدة الذاتية المتحكمة في علاقات بعضهم ببعض ،في خلافاتهم العميقة الشديدة التي يمثّلها قوله تعالى:
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[ الحشر:14] وبين الهيكلية الاجتماعية في موقفهم الموحد أمام الآخر الذي يهدّد وجودهم فينتصرون لبعضهم البعض في مواجهته .
ما معنى الخزي الدنيوي ؟
ثُمَّ يعقِّب اللّه على ذلك{ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ،لأنَّ هذا الواقع سيؤديحتماًإلى اختلال الأسس العامة التي يرتكز عليها بناء المجتمع ،فإذا أصيب بالتحلل والانهيار ،وضعف عن الامتداد والتماسك ،وقع تحت سيطرة المجتمعات الأخرى ،حيث يعاني في ذلك الخزي والهوان ،فيسقطون تحت تأثير مفاهيمها الكافرة أو الضالة ،ويندمجون في الاستغراق في خطوطها الفكرية والعملية ،فلا يؤمنون بالجهاد لأنه يؤدي إلى تعقيد علاقاتهم بها ،ولا يدعون إلى تحكيم اللّه في برامجه وشريعته في الحياة ،ولا يعملون على صنع القوّة ،فيفقدون الإحساس بوجودهم الحي المتحرّك الفاعل الذي يتحوّلتدريجياًإلى هامشٍ من هوامش وجود الآخرين .
أمّا في الآخرة ،فإنهم سيردون إلى أشدّ العذاب ،لأنَّ سلوكهم يمثّل التمرّد والطغيان على إرادة اللّه ،وهو ما يعني الاستهانة بهتعالىوالانحراف عن خطّ العبودية له .
ويختم الفصل بإعطاء القاعدة العامة التي تحكم مثل هذه النماذج ،فهم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ،فلم يعتبروا الآخرة شيئاً كبيراً في حياتهم ليواجهوا مسؤوليتهم من خلالها ،وأخلدوا إلى الأرض وارتبطوا بمقاييسها ومفاهيمها من اللذة والطمع والبغي والعدوان ...وهكذا ،فإنهم لا يواجهون إلاَّ العذاب الشديد الذي لا يخفف عنهم ولا يجدون لهم من دون اللّه ولياً ولا نصيراً .
----------------
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ} الذي أردناه الأساس لعلاقتهم باللّه في سلوكهم العملي في الحياة ،ليعرفوا أنَّ وجودهم فيها يساوي التزامهم بالتعاليم الإلهية كعهد وثيق بينهم وبين اللّه ،{ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه} ،وهذا هو التوحيد الذي يمثّل قاعدة الفكر في العقل وحركة الإحساس في القلب ،لتكون حياتهم خطّ استقامة في خطّ التوحيد ،بحيث يصدرون في كلّ مجالاتها عن النظرة التي تجعل كلّ تطلّعاتهم وخطواتهم ومشاريعهم وأهدافهم من خلال الطاعة المطلقة للإله الواحد ،فلا شرك في العقيدة ولا تعددية في العبادة والطاعة .{ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا}فهما السبب المباشر لوجود الإنسان ،وعليه مبادلتهما إحساناً بإحسان ،{ وَذِى الْقُرْبَى} الذين يمثّلون الرحم القريب الذي هو المجتمع الأقرب للمجتمع الإنساني الأول الذي يتحمّل الإنسان مسؤولية رعاية أفراده بالإحسان ،{ وَالْيَتَامَى}الذين فقدوا الآباء الذين يقومون برعاية شؤونهم وحمايتهم من كلّ خطر أو سوءٍ وتوجيههم للحياة الطيبة الكريمة ،ما يفرض على المجتمع أن يقوم بسدّ هذا الفراغ وتعويض هذا النقص النفسي والواقعي ،{ وَالْمَسَاكِينِ}الذين يعانون من الحاجة المادية ويسقطون تحت تأثيرها في دائرة المستكبرين ،ليفقدوا إنسانيتهم أمام ذلك ،الأمر الذي يريد اللّه فيه للنّاس تدبير أمرهم ،والإقامة بإعالتهم ،وسدّ حاجتهم ،بالطريقة التي تحفظ لهم كرامتهم .
{ وَقُولُواْ للنّاس حُسْنًا}وهذا هو خطّ التعامل مع الآخرين على مستوى حركة العلاقات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ،بحيث تكون الكلمة الطيبة والقول الحسن والأسلوب الجميل ،عناوين إنسانيةً في انفتاح الإنسان على الإنسان الآخر ،لأنَّ القول الحسن في اللفظ والمعنى يفتح القلب ،وينعش الروح ،ويقرب الإحساس ،ويقوي الروابط بين النّاس ...وقد جاء عن الإمام الباقر ( ع ) في تفسير هذه الفقرة قال: قولوا للنّاس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم ،فإنَّ اللّه عزَّ وجلّ يبغض السبّاب الطعّان على المؤمنين ،الفاحش المفحش ،السائل ؛ويحبّ الحليم العفيف المتعفف .{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ}التي هي وسيلة القرب إلى اللّه .
{ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ} والزكاة هي المضمون الإنساني للتكافل الاجتماعي في حركة العطاء في الشخصية المتفاعلة مع الواقع الاجتماعي في الحاجات الإنسانية العامة .
وهذه هي المفردات التي تتضمن الأوامر الإلهية في حركة الإيجاب في السلوك الإنساني التي أراد اللّه لكم إطاعتها والالتزام بمضمونها .] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ[ عن الوفاء بالعهد والاستجابة للأمر الإلهي في ذلك كلّه .