{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} فاستبدلوا الباقي بالفاني ،ورضوا بالعَرَض المحدود الزائل من المال والجاه واللذات الصغيرة ،بدلاً من النعم الكبيرة الواسعة الخالدة والرضوان الإلهي العظيم ...{ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} لأنهم أصروا على العناد والاستكبار على الحقّ ،{ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ،لأنَّ الآخرة ليست فرصة الذين ينتصرون لأنفسهم من عذاب اللّه بعلاقاتهم البشرية الدنيوية ،لأنه اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ للّه .
من وحي الآيات:
وكخلاصة ،فإننا نستوحي مما تقدّم ،ما فيه فائدة لواقعنا العملي حاضراً ومستقبلاً ،جملة أمور أبرزها التالي:
1إنَّ لكلّ شريعة من الشرائع خطّة متماسكة ،تحكم ربط أحكامها وتوزيع مواقعها ،فلا تجزئة ولا انفصال ،بل هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة يكمّل بعضها بعضاً ،ما يجعل الالتزام الكلي بها أساساً لتحقيق الغاية التي أرادها اللّه منها ،ولعلّنا نستوحي ذلك من الحديث المأثور عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ): «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلاَّ بُعداً » ،والحديث الآخر المرويّ في نهج البلاغة: «كم من صائم ليس له من صيامه إلاَّ الجوع والظمأ ،وكم من قائم ليس له من قيامه إلاَّ السهر والعناء ،حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم ...»[ 3] .فإننا نستفيد منهما أنَّ قيمة الطاعة تتحدّد بمقدار ما تحقّق من هدف الأمر والنهي ،سواء كانت الغاية مربوطة بكيفية أداء الطاعة كما في الصلاة والصوم ،أو كانت متصلة بالواجبات أو المحرّمات المرتبطة بهدفٍ واحد ،من حيث علاقتها بتكوين الشخصية الإنسانية على قاعدةٍ واحدة .ولعلّ الآية التي تحدّثنا عنها أبلغ شاهد على الفكرة ،لأنَّ احترام حرية الإنسان في نفسه وفي أرضه ينطلق من فكرة الإيمان بحرية الإنسان المنطلقة من الإيمان باللّه في رسالته وشريعته ،فلا معنى لأن يؤمن الإنسان بهذه الحرية في جانب ويكفر بها في جانب آخر ،لارتباط المواقف بعضها ببعض في تحقيق هذا المعنى الكبير في الحياة .
2إنَّ من الممكن استيحاء الفكرة التي ترفض ما تعارف عليه بعض المسلمين من المتأثرين بالمبادىء والأفكار الأوروبية ،سواءٌ منها الأفكار الرأسمالية أو الماركسية أو غيرها من الأفكار غير الإسلامية المتعلّقة ببعض الجوانب العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
وخلاصة ما يثيره هؤلاء ،أنَّ بإمكاننا أن نأخذ من الإسلام الجانب الروحي والأخلاقي في المفاهيم والتشريعات المتعلّقة بالحياة ،ولا سيما ما يتعلّق منها بالجانب العبادي أو الأحوال الشخصية ،أمّا التنظيم الاقتصادي والسياسي والتخطيط الاجتماعي ،فلا بُدَّ لنا فيه من الرجوع إلى الفكر الأوروبي ،لأنَّ هذا الفكر يرتكز على قواعد علمية مبنية على دراسة الواقع من خلال المعطيات العامة التي أفرزها التطور ،ويقررونفي هذا المجالأنَّ التشريعات الإسلامية التي تتصل بهذه الجوانب لا تفي بحاجة الحياة إلى التنظيم والتخطيط ،ولكنَّنا نلاحظ أنَّ هذا اللون من التفكير محكوم بعقلية الانبهار بالفكر الأوروبي الذي قد يعتبره فوق مستوى النقد ،بل هو باعث الحياة المتطورة على صورته ...وربما كان من الأجدر بهممن وجهة الإخلاص للتفكير العلميأن يدققوا في القواعد العامة الإسلامية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنّة ،وفصّلتها أبحاث الفقهاء المسلمين المستمدة من المصادر الأصيلة للتشريع ،ليطّلعوا على الإمكانات الفكرية والقانونية التي تستطيع أن تدفع بحياة المجتمع إلى الأمام .وقد لا يكفينافي إهمال هذه الجوانب من التشريع الإسلاميأن نلاحظ عدم انسجام الشكل العملي للأوضاع الإدارية والسياسية والاقتصادية التي كانت في الماضيعندما كان الإسلام يحكم الحياةمع الشكل الموجود الآن ،لأنَّ من الممكن للاجتهاد الإسلامي أن يلاحظ وجود بدائل من قلب التشريع مما يملأ هذا الفراغ .
إنَّ المسلم يحمل في وعيه الإسلامي فكرة إجمالية عن الحقيقة الإسلامية التالية: وهي أنَّ للّه في كلّ واقعةٍ من وقائع الحياة حكماً شرعياً محدّداً يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه ،وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة إجمالاً ،فهي لا تتعارض وإمكان وجود فراغ يمارس فيه ولي الأمر حرية التحرّك في بعض المجالات العملية العامة ؛كما يفرض على المفكرين المسلمين متابعة البحث عن الأحكام الشرعية ،في كلّ ما استحدثه الإنسان من أوضاع الحياة وشؤونها وأساليبها ،في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،لئلا يبقى الإنسان المسلم في حيرة أمام حركة التطور العام في الحياة ،إذ يبقى هذا البحث خاضعاً للمبادىء العامة والتصوّرات الكلية للشريعة ،لا مجرّد اجتهاد آخر خالٍ من أي ضوابط مقررة .من هنا ،فإننا لا نبرر اختيار أساليب الفكر المضادّ في بعض الجوانب ،والأخذ بالإسلام في البعض الآخر ،لأننا نكون مصداقاً لقول اللّه في حديثه عن اليهود:
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .
3إنَّ اللّه يعتبر الشريعة ميثاقاً بين اللّه وبين عباده ،لأنَّ الالتزام بها يمثّل الإقرار بمضمونها ،تماماً كما هو الالتزام ضمن أيّ عهد من العهود ،وبذلك يتحوّل العصيان والتمرّد والانحراف إلى عملية خيانةٍ للعهد ونقض له ،ما يجعل الصورة قاتمةً في داخل الذات ،فتوحي للإنسان باحتقار نفسه ،كما في أية حالة من حالات الخيانة ،وقد يكون من الخير لنا العمل على إثارة هذا الجانب في أساليب التربية الدينية ،لأنَّ الإنسان قد يقبل لنفسه صفة العاصي ،ولكنَّه لن يقبل لها صفة الخائن ،لما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات مسيئة تثقل وجود الإنسان وضميره .