{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي أوضحنا له الفهم الحقيقي للقضية أو للحكومة ،فكان قضاؤه أقرب إلى الحق من فهم داود ،{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} في ما ينطلقان به من توجيه الناس إلى الحق في حياتهم العامة والخاصة ،وفي منازعاتهم واختلافاتهم للوصول إلى الموقف الصواب ،لأن مهمة الرسول تتحرك في خطين ،خط الوعي للحياة من خلال فكر يرفع به مستواها إلى الدرجات العليا ،وخط العدل ،الذي يحل المشاكل على صعيد الفرد والمجتمع .وبذلك كان العلم يمثل قوّة الرسول( ص ) في شخصيته ،كما أن الحكم يؤكد التزام العدل في حركته .
الآية في خط العصمة
وقد نستطيع أن نثير السؤال كما أثاره الكثيرون ،كيف نفهم هذا الاختلاف بين سليمان وداود في فهم حكم الشريعة في هذه القضية ،وكيف يصيب سليمان من حيث أخطأ داود مع أن مسألة العصمة في عقيدتنا في الأنبياء أساسية ،لا سيما في مسألة التبليغ للأحكام أو في مسألة التطبيق في مقام القضاء .
وقد ورد في الجواب عن ذلك أكثر من وجه ،فقيل إن حكم سليمان كان ناسخاً لحكم داود ،فقد حكم داود بما حكم به الأنبياء من قبله ،ولكن الله أوحى إلى سليمان أن كل غنمٍ نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاّ ما خرج من بطونها ؛وقيل: إن داود أراد أن يعرّف بني إسرائيل أن سليمان وصيّه من بعده ،فلم يختلفا في الحكم ،لأن داود لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي ،بل في مجال إظهار موقع سليمان في النبوة ،بالطريقة التي توحي بالثقة به .ولكن الجوابين لا يخلوان من غموض ،لأن النسخ لا يمنع خطأ داود في حكمه ،ولو بلحاظ هذه الحالة في هذا الزمان ،كما أن الظاهر من الآية أنهما كانا ينطلقان من منطلق واحد ،فلا تباين ولا تعدد أمام إظهار الخطأ ليبدو حكم سليمان في دائرة الصواب ،فهذا لا يتناسب مع طبيعة الواقع ،باعتبار أن مجرد اعتماد داود على سليمان ووضعه في موقع الحكم يمكن أن يؤدي هذه المهمة ،من دون الإساءة إلى مقام داود ،فإن مثل هذا الأسلوب يبعث على فقدان الثقة بحكمه .
وربما كان أساس الحكم واحداً في المسألة ،وهو ضمان صاحب الغنم للزرع ،ولكن الاختلاف هو في طريقة تنفيذه ،فحكم داود برقابها لصاحب الحرث ،وحكم سليمان بما هو أرفق منه ،وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة ،مع ملاحظة أن قيمة الزرع تساوي قيمة رقاب الغنم ،كما أن قيمة الرقبة تساوي منافعها المستوفاة في كل سنة عادة .وبذلك لم يختلفا في حكم الله وإنما اختلفا في إجرائه في الدائرة التي يملكان فيها الحرية في التطبيق ،في ما يكون مرجع الأمر فيه إلى رأي الحاكم في الموارد التي لا تشتمل على تشريع محدّد ،كما في موارد التعزيرات وأمثالها من التفاصيل التي تقع في منطقة الفراغ التشريعي ،فيكون للحاكم أن يملأه بما يكون صالحاً ،وبذلك يكون تفهيم الله لسليمان المسألة ،هو الإيحاء له بالأسلوب الأرفق في إجراء الحكم بالضمان .وقد لا يكون هناك أيّ مانعٍ عقليٍّ في خطأ النبيّ بهذا المستوى ،إذا كان ذلك لمصلحة أخرى ،في تربية نبي آخر على الحكم ،وإظهار فضله ،واذا كان هذا النبي الموعود ابناً للنبي الأول ،وخاضعاً له ومعترفاً بفضله ،مما لا يبعث على الإساءة إليه .وقد لا يكون من الضروريّ أن يكون في ذلك إساءة لموقعه لدى الناس ،لأن الناس قد اعتادوا على اختلاف الحاكمين في الحكم ،مع اعترافهم بأنهما ينطلقان من علم ومعرفة ،لا سيما إذا لم يكن هناك تشريع محدّد في تفاصيل الحكم ،بل كان الأمر تابعاً لاجتهاد الحاكم وإن كان نبيّاً .
وربما لا نجد في أدلة عصمة الأنبياء ما يفرض مثل هذه الدقة في صواب الحكم ،في ما لا يؤدّي إلى ترك الحكم الواقعي ،كما في مثل هذه الحالة التي جاء فيها الحكم على لسان سليمان مع موافقة داود عليه كما يبدو .
وإننا ندعو إلى دراسة المسألة من جديد ،على مستوى البحث القرآني من خلال ما صوّره القرآن من الملامح العامة لشخصية النبيّ ،في ما يؤكد بشريته ،مع الإيحاء بالموقع المميّز من الوحي والانفتاح على آفاق الكمال الإنساني من مواقع القيادة .
تسخير الجبال لداود( ع )
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} كيف كان هذا التسبيح ؟هل هو صوت ينبعث من الجبال ومن الطير ،كما ينبعث من الإنسان ،أو هو شيء خفيّ اختصت به الجمادات الصامتة ،ولغة الطير المتمثلة بالأصوات المنبعثة منها في الهديل والزقزقة والتغريد ونحوها ؟أو هو الإبداع الفنّي الذي يتمثل في الصوت التسبيحيّ لداود في لحنه وأنغامه ،الذي يهتز له الشعور حتى ليخيّل للإنسان بأن الكون يُسبّح معه ،من خلال ما يثيره من الأجواء الخاشعة في الأفق الذي يُسبّح فيه ،فتشعر كما لو كانت الجبال والطير يسبّحن معه ؟!وربما كان هذا قريباً إلى أجواء الخصوصية التي يثيرها التسبيح في الكون ،ولكن كلمة التسخير توحي بوجود نوع من المشاركة الحقيقية التي لا نحيط بعلمها ،ولكننا نؤمن بها من خلال الله الذي يعلم من أسرار خلقه ما لا نعلمه ،مما اختص بعلمه ولم يعطه لأحدٍ من عباده ،{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في ما نريد أن نخص به الأنبياء من الكرامات المعنوية التي نريد من خلالها إظهار فضلهم على العالمين .