{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} وثبت الوعد الإِلهي ،وجاء موعد القيامة ،واندفع الناس إلى الحشر ليواجهوا نتائج أعمالهم ،وربما كان المراد منه العذاب الذي وعد الله المشركين به ،{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاَْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} وتعلن لهم النتائج العملية لما عاشه الناس مع الأنبياء ،في ما أنزل الله عليهم من رسالات ،وأقام لهم من بيّنات وأظهره لهم من دلائل وآيات ،وتقول لهم:{أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} لأنهم لم ينفتحوا على الحق النازل من الله والمنطلق من خلال الفطرة والمتحرك في دائرة العقل ،بل فضّلوا العناد والتمرّد والبعد عن الله ،وتعطيل كل عقولهم وحواسهم عن اكتشاف الحق .وهذا التفسير مبني على ظهور الآية في اعتبار قوله تعالى:{أَنَّ النَّاسَ} إلخ يمثل مضمون كلام البداية في ما أراد الله لها أن تعلنه على الناس كنداءٍ موجّه من الله ،أو كنداءٍ موجهٍ منها ،ولكن الله الذي أسند الإخراج إليه بضمير المتكلم ،أسند الآيات إليه بالضمير نفسه .وهناك تفسير آخر ذكره صاحب الميزان ،قال «وأما ما هو هذا القول الواقع عليهم ،فالذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسّر به قوله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [ فصلت:53] فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والأرضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائماً قطعاً ،بل بعض آياتٍ خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشيء من آيات السماء والأرض التي هي تجاه أعينهم وتحت مشاهدتهم .
وبهذا يظهر أن قوله:{أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} تعليل لوقوع القول عليهم والتقدير لأن الناس ،وقوله:{كَانُوا} لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم ،والمراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء والأرض غير الآيات الخارقة ،وقرىء «إنّ » بكسر الهمزة ،وهي أرجح من قراءة الفتح ،فيؤيد ما ذكرناه ،وتكون الجملة بلفظها تعليلاً من دون تقدير اللاّم .
وقوله:{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاَْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} بيان لاية خارقةٍ من الآيات الموعودة في قوله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وفي كونه وصفاً لأمرٍ خارقٍ للعادة ،دلالةٌ على أن المراد بالإخراج من الأرض إمّا الإِحياء والبعث بعد الموت ،وإما أمر يقرب منه ،وإما كونها دابة تكلمهم ،فالدابة ما يدب على الأرض من ذوات الحياة إنساناً كان أو حيواناً غيره ،فإن كان إنساناً كان تكليمه الناس على العادة ،وإن كان حيواناً أعجم كان تكليمه ،كخروجه من الأرض ،خرقاً للعادة ...»
ثم قال: «ومحصل المعنى: أنه إذا آل أمر الناسوسوف يؤولإلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم ،وبطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقل والاعتبار ،آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبيّنة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق ،فأخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم »[ 1] .
ولكن هذا التفسير غير ظاهر من الآية ،وذلك بلحاظ السياق الذي دلّ على أن المقصود ليس هو اضطرارهم للإيمان من خلال كلام الدابة ،لأن الوقت هو وقت الحساب على الكفر والضلال ،لا وقت الهداية للإيمان ،مع ملاحظة أن أمر هذه الدابة لا يزيد في دلالته عما قدّمه الله لهم من آياته الكونية أو آياته الإعجازية ،بل قد تكون من خلال النظرة السريعة ،أقلّ منها ،وأن مسألة الاضطرار إلى الإيمان في موعد القيامة أو في موعد العذاب ،لا يحتاج إلى هذه الآية ،لأن كل ما في القيامة من مشاهد يؤدي إلى اليقين كل اليقين بالحق كله .
إن السياق يوحي بأن المقصود هو إعلان الأمر على الناس بما كانوا يتحركون فيه من الأخذ بالكفر ،للإِيحاء إليهم بأن النتائج ستكون تابعة لذلك لأنهم كفروا ،من موقع رفض الحجة ،لا من موقع الشبهة .وثانياً: إن قوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الاَْفَاقِ} الخ لا يظهر منه أن ذلك سيكون في نهاية العالم وأن المقصود به هو غير الآيات التي أودعها الله في الكون وفي الإنسان ،بل إن الظاهر هو جلاء تلك الآيات الخفية بما يمكن أن يظهره الله منها من خلال وسائل المعرفة التي يحصل عليها الناس بعد ذلك من خلال تطوّر العلم ،في وسائله ومكتشفاته ،والله العالم .
وقد أفاض المفسرون كثيراً في الحديث عن الدابة ،في طبيعتها الإنسانية والحيوانية ،وفي صفاتها الغريبة ،وفي كيفية خروجها ومضمون كلامها ،مما لم يثبت به حجة قاطعة ،وقد لاحظنا أن القرآن وضعها في موضع الإبهام ،ولم يفصل أي شيء من هذه الأمور ،فلنترك الخوض في ذلك كله ،لأنه مما لا فائدة فيه على مستوى النهج القرآني في مضمونه وإيحاءاته .