وهذه شخصيةٌ من شخصيات التاريخ القرآني ،تتميز بالغرور الذاتي ،الناشىء من الإمكانات المالية الهائلة ،التي تمكنها من الارتفاع الطبقي على أفراد مجتمعها ،والحصول على الامتيازات الاجتماعية من خلال ذلك ،والتحركمعهاعلى أساس الزهو الاستعراضي الذي يُراد منه الإيحاء بالعظمة الكبيرة التي يصغر أمامها الآخرون من الفئات الاجتماعية الفقيرة ،بحيث تسقط معنوياتهم ،وتُسحق إرادتهم ،وتُزرع في داخلهم القيم المادية التي ترى في المال القيمة الكبرى التي لا ترقى إليها قيمةٌ في الحياة ،ويؤدي ذلك إلى سيطرة أصحاب الأموال على المجتمع .
وقد جاء هذا الفصل ليصوّر للناس بعض ملامح هذه الشخصية المالية المغرورة ومفاهيمها في الحياة ،ونظرة الناس إليها ،والخط القرآني الإيماني في وظيفة المال ودوره في حياة الإنسان المؤمن .
قارون الباغي على قومه
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} الذين حمل موسى رسالة تحريرهم من سيطرة فرعون ،ليتحرروا من الخضوع للنهج الفرعوني في العقيدة والسلوك ،لأن حرية الإنسان في أفكاره تنطلق من حرية مواقعه في حركة السلطة غالباً .وكان من المفروض أن يكون قارون مخلصاً لحرية قومه ولحركة الإيمان الجديدة في حياتهم ،ولكنه لم يكن بالمستوى الأخلاقي الذي يحميه من غرور المال وزهوه ،فترفّع بنفسه عن قومه{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وتكبّر ،وحاول أن يربك حياتهم ،ويفسد قيمهم ،مستغلاً قوّته المالية التي تتيح له الحصول على مواقع القوّة والنفوذ في المجتمع .وقد كان حجم ماله كبيراً جداً ،ما سهّل له الحصول على ما يريد من ذلك ،{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} التي يخزن فيها أمواله ،{مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوء بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} فإذا كانت مفاتيح بيوت المال تثقل الجماعة الملتف بعضها ببعض ،بحيث تزيد على العشرة ،فكيف يكون حجم ما يملكه من مال في ما يمثله ذلك من كثرة هذه البيوت ؟!
قوم قارون يقدمون له النصيحة
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والظاهر أن المراد بالفرح ،ليس الحالة النفسية الهادئة من السرور الطبيعي الذي يحصل للإنسان عند أية حالةٍ من حالات الانسجام مع ما حوله أو مع من حوله ،لأن هذا ليس أمراً سيئاً ،من خلال القيمة الإنسانية للمشاعر الخاصة ،بل المراد به البطر الذي يمثل شدّة الفرح في ما يصل به الشعور إلى مستوى الإفراط في الانفعال والتعلق بمتاع الحياة الدنيا ،بحيث يتحوّل إلى هزّةٍ ذاتية في تعبيراتها الكلامية والسلوكية وفي انتفاخ الشخصية بشكل غير طبيعيّ .وهذا المعنى هو ما نستوحيه من قوله تعالى في آية أخرى:{وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [ الحديد: 23] فأن الظاهر إرادة الحالة الانفعالية من السرور الداخلي الذي يتحول إلى أجواء الخيلاء والفخر .
وهذا ما يبغضه الله في الإنسان ،الذي يريد له أن يكون متوازناً في انفعالاته ،متواضعاً في علاقاته ،هادئاً في تأثره بالأشياء المحيطة به ممّا يُفرح أو يحزن ،فإذا كان متكبراً مختالاً متعالياً على الناس ،كان عبثاً على الناس من حوله بما يثيره من انفعالات مضادّة لحريتهم وكرامتهم وإنسانيتهم ...وهكذا كان يريده العقلاء من قومه الذين عرفوا القيم من قاعدة الإيمان ،ولم يعرفوها من منطق الحجم المادي للأشياء ،فقد عايشوه في بداية أمره وأرادوه أن يبقى معهمكما كانإنساناً ينفعل بالإيمان ،أكثر مما ينفعل بالمال .