{وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ} فهي الغاية لكل ما وهبه الله للإنسان في الدنيا ،فليس المقياس في أخروية العمل طبيعته الذاتية ،بل هو عنوانه وعمقه وهدفه ،فإن كان رضى الله هو العنوان الذي يأخذ منه العمل عنوانه وكانت الدار الآخرة في قيمها الروحية هي الهدف منه ،بحيث كان الأساس هو الحصول على الموقع المميز والدرجة الرفيعة هناك مما يلتقي مع القيم الكبيرة المعنوية التي تحقق مصلحة الإنسان في الحياة ؛إذا كانت القضية هي هذه ،فإن العمل يكون أخروياً حتى لو كانت صورته مادية دنيويّة .
أمّا إذا كان الأساس في العمل هو الاستغراق في خصوصيات الدنيا ،في شهواتها ولذائذها ،وأنانيتها وامتيازاتها ،مما يتسابق الناس إليه ،كقيم الذات الضيقة وحاجاتها المحدودة مما لا ينفذ إلى أبعد من حدود الدنيا ،ولا يحمل في داخله همّاً أخروياً وبُعداً روحياً ،فهذا هو العمل الدنيوي حتى لو كانت صورته روحيةً أخروية ،كبعض أعمال الخير التي يراد منها اكتساب عرض زائل لا الحصول على رضى الله ،وكما في الصلاة المتحركة في أجواء الرياء .
وعلى ضوء هذا ،نعرف أن المسألة لا تتغير في صورة العمل وارتباطه بالحياة من خلال مقياس العمل الدنيوي والأخروي ،بل في غاية العمل وروحيته ،عبر الخط الفاصل بين ما يبقى أثره في الدنيا ،وبين ما تتحرك إيجابياته في الآخرة ،وهكذا أراد قوم قارون منه ،أن يحرّك ماله في اتجاه الحصول على رضى الله الذي يمنحه معنى الخير ويؤدي به إلى الحصول على خير الآخرة ،ولم يريدوا منه أن يترك ما آتاه الله من مال ،أو يخرج منه ،لأن ذلك ليس هو المطلوب .
{وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فمن حقك أن تستعمل مالك في حاجاتك الخاصة وشهواتك ولذاتك الذاتية ،فليس معنى ابتغاء الدار الآخرة في مالك أن تنسى حقوق نفسك ،كإنسان يريد أن يعيش في الدنيا ويستمتع بطيباتها ،لأن طبيعة مادية جسدك أن تحصل له على ما يحفظ له حياته ويحقّق له راحته .وبذلك يقف التوجيه الإسلامي في خط التوازن في حركة الممارسة الاقتصادية ،بين الجانب المادي الذي يمثل حاجة الإنسان كجسدٍ ،للاكتفاء الذاتي من متع الحياة ،وبين الجانب الروحي الذي يمثل حاجة الإنسان كروح ترغب في الحصول على الاستقرار في الدار الآخرة ونعيمها في رضى الله .وقيل: إن «معناه لا تنس أن نصيبك من الدنياوقد أقبلت عليكشيءٌ قليل مما أُوتيت ،وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلاً ،والباقي فضل ستتركه لغيرك ،فخذ منها ما يكفيك »[ 2] .ولكن هذامع وجود بعض ملامح التفسير السابق فيهبعيدٌ عن مساق الآية ،لأنها لم تتحدث عن قيمة نصيبه ،بل عن طبيعة ما يرخصه الله له من نصيبه في الدنيا .
وقيلكما في تفسير الميزان«أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسي ،واعمل فيه لآخرتك ،لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته ،فهو الذي يبقى له »[ 3] .وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون راجعاً إلى ما ذكرناه .
{وَأَحْسِن كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فقد أعطاك الله من نعمه الكثير ،من دون عوض إحساناً إليك ،فأعط الناس من ذلك ،على أساس الإحسان ،تأدّباً بأخلاق الله وشكر النعمة .
لا تبغ الفساد في الأرض
{وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ} ولا تستخدم مالك وما آتاك الله من جاه وغيره في إفساد البلاد والعباد ،وتوجيه الحياة في حركتها في النموّ والامتداد نحو الفساد ،لتكون أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمةً على القوانين الفاسدة ،والعلاقات الجائرة والأوضاع المنحرفة ،مما اعتادته القوى الكافرة والمستكبرة من استغلال مواقع نفوذها المالي والسياسي والاجتماعي ،في إفساد الواقع ،وتهديم قوى الخير والصلاح ،وإثارتها الفتن والحروب المدمّرة ،والاهتزاز الروحي في تحريك السلبيات في حياة الناس{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لأن الله أقام الكون على الحق والتوازن والخير والصلاح في حركة التكوين والتشريع ،ويريد لخلقه أن يتمثلوا ذلك في وجودهم ،وبناء شخصياتهم وفي حركة حياتهم ،فلا يحب الذين يثيرون الفساد في الكون كله .