{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} فلا دخل لله في ذلك ،فقد خلقني الله من عدموهذه حقيقة أؤمن بهاولكن المال الذي أملكه كان نتيجة جهدي الذاتي ،وفكري المتحرك في اتجاه مواجهة الأوضاع الاقتصادية في الحياة بالتخطيط الدقيق ،والحركة الزكيّة الدائمة ،والوسائل المتنوعة والوعي الكبير ،وهذه هي النتيجة الطبيعية للعلم الذي أملكه ،والإرادة التي أحرّكها .
وهذا هو منطق المستكبرين الغافلين الذين يرتبطون بالأمور بشكل مباشر من خلال الحس السطحي ،ولا ينفذون إلى أعماقها في جذورها الحقيقية الممتدة في عمق الأسباب الكامنة في واقع الأشياء .وهذا هو الذي حدثنا الله عنه في أكثر من آية ،كما في قوله تعالى:{فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّما أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ* أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [ الزمر:4952] وفي قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الاَْرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّناتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ غافر:8283] .
وهكذا كان هؤلاء ينطلقون في تفسيرهم وتقييمهم لما حصلوا عليه من نتائج ومواقع وأموال كبيرة ،من طبيعة نبوغهم العلمي على أساس العلاقة بين الأشياء وأسبابهما المادية ،ولا يحاولون الرجوع إلى طبيعة هذه الأسباب ،وعلاقتها بالنظام الكوني الذي أودع الله في داخله قوانينه الطبيعية ،وسننه الاجتماعية ،ووسائله المادية ،مما لم يكن له أيّة إمكانية في الوجود بعيداً عن إرادة الله وقدرته في حركة الحياة والإنسان ،الأمر الذي يجعل العلم من مفردات النظام العام للوجود ،وليس هو السبب الوحيد من جهة ،كما أنه ليس شأن الإنسان باستقلاله من جهة أخرى ،لأنه هبة العقل الذي خلقه الله ،وحركة الحواس التي أبدعها الله .
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} فلو فكر بعلمه ،لرأى أن الله وحده هو الذي يعطي بإرادته في حركة قانون الحياة ،وهو الذي يمنع ويأخذ ،فهو القادر على السيطرة على دورة المال في الأرض وفي ملكية الإنسان له ،وهو وحده الذي يملك أمر الإنسان كله في وجوده وهلاكه ،ولا يملك أيّ شخصٍ الخلاص من ذلك مهما كان قوّياً في جسده وفي مركزه ،أو كان غنياً في ماله الذي اجتمع له .وليدرس تاريخ الذين سبقوه من أصحاب القوّة والمال والنفوذ ،فقد كانوا أشد منه قوّةً وأكثر جمعاً ،فقد استكبروا كما استكبر ،واغترّوا بعلمهم كما اغترّ ،ولكن الله أهلكهم بذنوبهم وأخذهم بقوّته .
{وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لأن أمرهم واضح ،وجريمتهم محقّقة ،فلا مجال فيها للأخذ والرد والسؤال والجواب ،لأن المسألة متصلة بالله الذي يعلم كل شيء ،ويهيمن على كل شيء ،ولهذا فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر من دون حاجة إلى أيّ سؤال أو أيّ تحقيقٍ ،لأن ذلك كله من أجل معرفة الجريمة ،فإذا كانت واضحةً ،فلا مجال للبحث عن وسائل الإثبات .