مسؤولية الدعوة إلى الخير:
كانت الآيات السابقة دعوةً للاعتصام بحبل اللّه في خطّ التَّقوى الذي يقتضي ضبط المسيرة الذاتية للمجتمع الإسلامي ،وتأكيد الوحدة الروحية والأخوة العملية في حركة هذا المجتمع ،وذلك من خلال المفاهيم الإسلامية التي تربط الإنسان المسلم باللّه في الفكر والشعور والعمل ...
أمّا هذه الآيات فقد بدأت في تحويل المجتمع إلى مجتمع منفتح على آفاق الدعوة إلى الخير في الداخل والخارج ،لأنَّ ذلك هو دور الأمّة المسلمة القائدة التي تقود العالم إلى ما فيه الخير والصلاح ،لأنَّها لا تمثِّل القوّة التي تختزن في نفسها عناصر القوّة ثُمَّ تنغلق على ذاتها في عمليّة ذاتية محدودة لا تشعر فيها بالمسؤولية عن فكرها وقيمها وأهدافها ،فلا تعمل من أجل تحريكها في حياة الآخرين ،وتوسيع مداها في حركة الإنسان الصاعدة ؛بل تمثِّل القوّة المسؤولة التي تعتبر مسؤولية صنع الخير والدعوة إليه جزءاً من شخصيتها الممتدّة التي ترى في امتدادها في الزمن معنى وجودها في الحاضر ،وتؤمن بأنَّ حركتهابعيداً عن الحدود الضيقةهي سرّ حيويتها وتجدّدها ومعنى إيمانها ،لأنَّ الإيمان باللّه وبرسالاته لا يتجمّد في زمن ولا يقف عند حدّ ،إذ إنَّ الإنسان هو عبد اللّه وخليفته في دوره الإنساني في الأرض ،فلا بُدَّ له أن يستوعب كلّ عناصر الرسالة في كلّ دور من أدوار حياته ،وفي كلّ مجتمع من مجتمعاته من خلال ما يبلغه رسل اللّه من رسالات .
من هم الأمّة ؟
وإذا كانت الدعوة إلى الخير هدفاً من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة ،فإنَّ من اللازم أن تبرز من داخل الأمّة طليعة واعية تتبنّى خطّ الدعوة إلى اللّه حسب حاجة الساحة إليها ،فقد تحتاج إلى عدد محدود قليل ،وقد يزيد هذا العدد ،وربَّما يشمل الأمّة كلّها إذا كبرت التحدّيات الشريرة المضادة من قوى الكفر والشرّ .
وهذا هو معنى الأمّة في قوله: [ ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر] أي: جماعة من المسلمين الذين يمكن لهم أن يحقّقوا الهدف ،ويسدّوا الثغرة بالجهود المبذولة في هذا الاتجاه .وفي ضوء ذلك ،نعرف عدم إرادة «الأمّة » بالمعنى المصطلح الذي يتسع ليتحدّد في معنى القومية الشاملة التي تنطلق من وحدة اللغة والأرض والتاريخ أو العادات والتقاليد ،ما يوحي به المعنى الاجتماعي والسياسي للكلمة ،لأنَّ ذلك لا مجال له في هذه الآية ،التي تؤكّد على الجماعة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر بحجم الحاجة ،فقد تشمل المسلمين كلّهم إذا كانت التحدّيات الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة بالمستوى الكبير الذي لا يكفيه أيّة جماعة محدودة ،وقد يضيق عن ذلك إذا كان الحجم محدوداً يكفيه قسم معيّن منهم .وقد يتنوّع الموضوع حسب الحاجة الواقعية بين الجهود الفردية التي يدعو فيها بعضهم بعضاً بشكلٍ فردي ،وبين الجهود الجماعية التي تنطلق لرعاية الواقع كلّه ومراقبته وتوجيهه في القضايا العامّة التي تحتاج إلى الأمّة الإسلامية كلّها ،تبعاً لاتساع حدودها وكثرة جماعتها وتنوّع أوضاعها .
وقد كان الواقع التاريخي لهذه الجماعة يتمثّل في الدائرة الاجتماعية في البلاد الإسلامية تحت اسم دائرة الحسبة ،ويُسمى أفرادها بالمحتسبين .
وقد يُطلق عليهم اسم «لجنة الآمرين بالمعروف » ،وكانت مهمتهم ملاحقة ظاهرة الانحراف الديني والفساد الاجتماعي والسياسي في واقع النَّاس والدولة ،وهكذا نجد أنَّ حجم هذه الجماعة لا يختص بعددٍ محدود ،فقد يشمل المسلمين كلّهم في الدائرة العامّة للحاجة .
الدّعوة إلى الخير مسؤولية كلّ مسلم:
...أمّا حجم الخير ومداه ونوعيته ،فإنَّه يتّسع سعة الإسلام في عقيدته وشريعته وحركته الشاملة للحياة ،وذلك قوله تعالى: [ يدعُونَ إلى الخير] ،وبذلك كانت الدعوة مسؤولية كلّ مسلم يحتاج الإسلام إلى فكره وأسلوبه في الدعوة ،فليس لأيّ إنسان من أمثال هؤلاء أن يتقاعس ويجمّد نفسه في دائرة ضيقة أو عزلةٍ خانقة ،أو هروب من خطّ المسؤولية ،تماماً كما لا يجوز له أن يفعل ذلك في ما يتعلّق بعباداته وفروضه الأخرى .وقد شاركت عصور التخلّف في خلق ذهنية سلبيّة كسولة لا شغل لها إلاَّ البحث والتدقيق في إيجاد المبرّرات للتراجع والتكاسل والبُعد عن المسؤولية ،الأمر الذي أدّى إلى أن يفقد الإسلام كثيراً من الطاقات والقابليات ذات الفاعلية الكبيرة في تعزيز الإسلام والمسلمين ،ولا يزال بعض هؤلاء يتحرّك من أجل التنديد بالعاملين ،لأنَّهم يشكّلون التحدّي العملي لأمثاله في حمل المسؤولية الإسلامية في الساحة .
مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فقد يلتقيان بالدعوة إلى الخير في الجانب الذي تفرضه الدعوة للمعروف وللبُعد عن المنكر بالكلمة وأمثالها ،مما يكون حركة إيجابية نحو الخير والمعروف ،وحركة سلبية ضدَّ الشرّ والمنكر ...لأنَّ ذلك من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وقد يتحرّكان في اتجاه الخطوات العملية التي تعمل على تغيير الواقع بالمواقف الحاسمة التي يقفها العاملون ضدَّ المنكر في اتجاه المعروف ،بالثورة عليه وبمواجهته بالضغوط القويّة ،من أجل إزالته تارة ،أو التخفيف من غلوائه أخرى ؛سواء في ذلك العمل الفردي المنكر المتمثّل في انحراف الفرد عن خطّ الإسلام ،أو العمل الاجتماعي الذي يمثِّله انحراف المجتمع ككلّ في الخطّ العملي بشكل عام ،أو العمل السياسي الذي يواجه في الأمّة الحكم الظالم الذي يعمل على السير بقضاياها المصيرية في الاتجاه المنحرف ،على غير سيرة العدل في الحاكم والحاكمين ،الأمر الذي قد يسيء إلى عزتها وكرامتها ،وذلك بإخضاع مقدراتها للكفر والكافرين بمختلف الوسائل الخفيّة التي تجعلها تحت سيطرة الاستعمار والمستعمرين ؛أو العمل الاقتصادي الذي ينحرف بالاقتصاد عن شريعة اللّه في مصادر الثروة ومواردها وطريقة توزيع الإنتاج ،وإبقاء ثروة الأمّة تحت سيطرة الاحتكار الجشع في ما يريده وما لا يريده ...
وفي ضوء هذا المفهوم الشامل ،نكتشف الخطّ الإسلامي للمسيرة الإسلامية تجاه رصد حركة الواقع في الجانب الإيجابي والسلبي ،فنلاحظ أنَّ اللّه يريد للأمّة أن تتحمّل مسيرة الخير بمعناه الواسع بالدعوة إليه حتّى لا يبقى هناك أحد لم تبلغه الدعوة ،ما يعني أن تراقب كلّ المناطق والمجالات التي ليس فيها دعاة أو مرشدون لسدّ هذا النقص الكبير فيها ،كما يريد للأمّة أن ترصد المعروف والمنكر في المجال التطبيقي للإسلام لتتحمّل مسؤولية الأمر بالأول والنهي عن الثاني بكلّ الإمكانات المتاحة لها في منطقة الشعور الداخلي بالرفض النفسي للمنكر والتعاطف الروحي مع المعروف ،وهو ما يعبّر عنه بالتغيير بالقلب ،أو في منطقة التعبير بإطلاق الكلمة القوية التي تؤيّد أو ترفض وهو التغيير باللسان ،أو في مجال المواجهة بالدخول إلى صميم الواقع والضغط عليه بشدّة ،وهو ما يعبّر عنه بالتغيير باليد ...فلا مجالبعد ذلكللقول بأنَّ الإسلام يوافق على السلبيّة الفردية والاجتماعية في هذا المجال ،لأنَّه يعزل الإنسان في النطاق الذاتي الذي لا يخلق له أيّة مشكلة مع الآخرين على أساس أنَّ كلّ فرد مسؤول عن نفسه ،فلا مسؤولية له عن غيره إلاَّ في نطاق النصائح والتوجيهات الأخلاقية العامّة التي تُلامس المشكلة من بعيد ،بحيث لا تثير أي شعور سلبي لدى المنحرفين والكافرين والظالمين ...
وقد ختمت الآية هذه الدعوة بإعطاء هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمة صفة الفلاح بقوله: [ وأولئك هم المفلحون] للإيحاء بأنَّ هذه الدعوة للخير والممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثِّل خطّ الفلاح للقائمين بها ،من خلال أنَّها تمثِّل قيامهم بالمسؤولية العامّة في ما يريد اللّه منهم القيام به ،مقابل الخاسرين الذين يبتعدون عن مشاكل المسؤولية وأتعابها .