نهي عن السير في خطّ الاختلاف:
وينهى القرآن عن السير في خطّ التفرّق والاختلاف الذي يؤدّي إلى انهيار المجتمعات وابتعادها عن خطّ الاستقامة ،من خلال ما يُحدثه من التمزّق الأخلاقي والسقوط الاجتماعي ،الذي يفقد فيه المجتمع توازنه الفكري والعملي ،فيسيطر عليه المترفون الذين يعملون على إضلال النَّاس وإسقاط قيمهم الروحيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاقتصاديّة لمصلحة امتيازاتهم الظالمة ،أو يتولى أمره المستكبرون والكافرون الظالمون فيبتعدون به عن خطّه المستقيم وإيمانه القويم: [ ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا] فلم يلتقوا على قاعدةٍ فكريةٍ واحدة على مستوى العقيدة والمفاهيم العامّة والتصوّر الشامل الدقيق للأشياء ،بل أخذ كلّ واحد منهم بشيء من الأفكار المختلفة التي يُناقض بعضها بعضاً ،ما يؤدّي إلى التنافر والتنازع والضلال ،[ من بعد ما جاءهم البيِّنات] فاختاروا الكفر على الإيمان بعد قيام الحجّة عليهم من اللّه سبحانه بالدلائل الواضحة والبيِّنات القوية ،[ وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ] جزاء تمرّدهم على اللّه وانحرافهم عن خطِّه المستقيم .
دعوة عامّة أم خاصّة ؟
وقد نلاحظفي هذا المجالأنَّ اللّه سبحانه لم يطلب من المسلمين كافة القيام بهذا الدور ،بل دعاهم إلى أن يكون منهم جماعة مخصوصة لتقوم بذلك ،فكيف نفهم ذلك ؟
الظاهر أنَّ القضية ليست في مجال التحديد ،بل هي في مجال تقرير المبدأ ؛فلا بُدَّ للأمّة من دعاة للخير ومن آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ،وبذلك يختلف حجم هؤلاء حسب اختلاف حاجة الساحة إلى تحقيق هذا الهدف ،فقد تمرّ الأمّة بمرحلة عادية لا تحتاج فيها إلى النشاط الطبيعي الذي تقتضيه طبيعة الأشياء مما لا ضرورة فيه إلى استنفار الأمّة بطاقاتها الكاملة ...ولكنَّها قد تمرّ بحالة طوارئ من التحدّيات الصعبة العنيفة التي يثيرها دعاة الكفر والضلال ،بالمستوى الذي تحتاج فيه الأمّة إلى كلّ طاقاتها لمواجهة ذلك كلّه ،ويتحوّل فيه الموقف إلى «الوجوب العيني » الذي يتوجه إلى كلّ فرد بنفسه من دون أن يقوم فيه إنسان عن الآخرين ،بدلاً من «الوجوب الكفائي » الذي إذا قام به البعض سقط عن الكلّ ،وإذا لم يقم به الكلّ أثموا جميعاً .
وفي ضوء ذلك ،انطلقت الآيات والأحاديث الشريفة في التأكيد على الإبلاغ والتذكير ،والدعوة إلى اللّه ،والتنديد بالعلماء الذين يكتمون علمهم في الحالات التي تظهر فيها البدع وتتكاثر في المجتمع ،لأنَّ ذلك هو السبيل إلى استمرار الرسالة حيّةً ناميةً في حياة النَّاس ،وقويّة صلبة أمام التحدّيات الفكرية والعملية ،ما يجعل من السكوت في حالة القدرة على الكلام خيانةً للإسلام والمسلمين ،لأنَّ ذلك يُفقد الموقف قوّة من قواه الجاهزة على صعيد الواقع ...وقد لا نستطيع اعتبار مواقف النبيّ والصحابة والأئمة ( ع ) محصورة في نطاق حياتهم ومرحلتهم في مجال الدعوة ،بل هي مواقف ممتدة في الحياة امتداد الرسالة في الزمن ،ما يجعل من الدعوة إليها أمانة الأجيال المسلمة في كلّ زمان ومكان .
وقد نستطيع التأكيد في هذا المجال على أنَّ الرسالة الإسلامية لم تصل إلينا بهذا المستوى الكبير من القوّة والوضوح والامتداد إلاَّ بفضل المواقف الرسالية التي وقفها العلماء والمجاهدون في مراحل التاريخ في دعوتهم إلى الخير ،وفي أمرهم بالمعروف ،ونهيهم عن المنكر ،ومواجهتهم للقوى الكافرة والضالة ،حتّى سقط منهم الشهداء في خطّ المسيرة الطويل ...وهكذا يظلّ الإسلام دين دعوة للفكر والإيمان ،وتوجيه للعمل والتطبيق في عملية توعية وانفتاح .