...وليست القضية قضية صفة ذاتية عاديّة يُراد منها تقييم الإنسان من ناحية ذاتية ،لأنَّ طبيعة القضية تتصل بالجانب العام الشامل لحياة الإنسان ،أمّا ذلك الفلاح وهذا العذاب فإنَّما يبرزان بأعلى صفاتهما في مواجهة الإنسان للمصير في موقفه أمام اللّه عندما يتحدّد للإنسان مصيره من خلال انطباع أعماله على وجهه ،فهناك النَّاس الذين تبيضُّ وجوههم بما عملوا من خير ،من خلال ما يمثِّله من صفاء ونقاء وبياض ناصع ؛وهناك النَّاس الذين تسودُّ وجوههم بما عملوا من شرّ ،من خلال ما يمثِّله من سواد وظلمة وقلق ،وذلك هو قوله تعالى: [ يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ] وهذا تعبير إيحائي عن الحالة الروحية التي تترك تأثيراتها على الصورة البارزة للإنسان من خلال عناصرها الخاصّة في الذات ،فإذا كانت الروح منفتحة على الجانب المشرق من النيّات الخيّرة والأعمال الصالحة ،فإنَّ ذلك ينعكس على إشراقة الوجه نوراً وإشراقاً وبِشْراً ،لأنَّ هذا الإنسان لا يشكو من عقدةٍ تثقل روحه وتشوّه صورته .وأمّا إذا كانت الروح منغلقةً على الخير ومنفتحةً على الشرّ في الدوافع والأعمال ،فإنَّ الإنسان يبدو من خلالها شيطاناً في ملامحه ،معبّراً في وجهه ،مظلماً في ذاته .وهذا ما يوحي بالحقيقة الإنسانية في تأثير الواقع الداخلي في صورة الواقع الخارجي للإنسان ،بحيثُ تتمثّل ملامحه الداخلية في ملامحه الخارجية في الصورة تارةً ،وفي النظرة العامّة لحركته تارةً أخرى .وقد عبّر اللّه عن ذلك بطريقةٍ أخرى في صورة المؤمنين يوم القيامة في النور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم وذلك هو قوله تعالى: [ يوم تبيضُّ وجوهٌ] وبإزاء هؤلاء نرى المنافقين والمنافقات غارقين في الظلمة يستجدون النور من المؤمنين والمؤمنات [ وتسودُّ وجوهٌ] .
وتزداد الصورة وضوحاً في مواجهة الموقف ،فيبدو لنا هؤلاء الذين اسودّت وجوههم ،فإذا بنا نلمح في أوضاعهم وتقارير أعمالهم وطبيعة السؤال الإنكاري الذي يوجّه إليهم: [ فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم] صورة النَّاس الذين ساروا في خطّ الإيمان فترة من الزمن ،ولكنَّهم وقعوا تحت تأثير الضغوط الذاتية من الشهوات والأطماع والأضاليل ،فانحرفوا عن الخطّ ،ثُمَّ تحوّل انحرافهم إلى مواجهةٍ مضادّةٍ للخطّ نفسه عندما فرضت عليهم ذاتياتهم أن يقاوموه ليرضى عنهم أولياؤهم من الكافرين والضالّين ...
وفي هذا إيحاء دقيق من بعيد بأنَّ على الإنسان أن لا يستسلم للثقة بإيمانه في استرخاء كسول ،يؤمن معه بأنَّه لا يتزعزع مهما كانت الظروف والضغوط ،بل ينبغي له أن يحرسه بالفكر والتأمّل والقراءة والحوار والعمل ،لأنَّ الكثيرين من النَّاس قد ضلّوا بعد الهدى ،وكفروا بعد الإيمان تحت تأثير العوامل السلبية المتنوّعة المحيطة بهم ...فحاق بهم العذاب نتيجة ذلك كلّه ،وواجهوا النداء الحاسم من اللّه: [ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفُرونَ] .