مناسبة النزول:
جاء في أسباب النزولللواحدي«قال الكلبي: إنَّ ناساً من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة ،فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة ،فسألهم كعب: هل تعلمون أنَّ هذا الرّجل رسول اللّه في كتابكم ؟قالوا: نعم ،وما تعلمه أنت ؟قال: لا ،فقالوا: فإنّا نشهد أنَّه عبد اللّه ورسوله .قال: لقد حرمكم اللّه خيراً كثيراً ،لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم ،فحرمكم اللّه وحرم عيالكم .قالوا: فإنَّه شُبِِّه لنا ،فرويداً حتّى نلقاه .فانطلقوا فكتبوا صفةً سوى صفته ،ثُمَّ انتهوا إلى نبيّ اللّه فكلّموه وساءلوه ثُمَّ رجعوا إلى كعب ،وقالوا: لقد كنّا نرى أنَّه رسول اللّه ،فلمّا أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ،ووجدنا نعته مخالفاً للذي عندنا ،وأخرجوا الذي كتبوا ،فنظر إليه كعب ،ففرح ومارهم وأنفق عليهم ،فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال عكرمة: نزلت في أبي رافع ،ولبابة بن أبي الحقيق ،وحيي بن أخطب ،وغيرهم من رؤساء اليهود ،كتموا ما عهد اللّه إليهم في التوراة من شأن محمَّد وبدّلوه ،وكتبوا بأيديهم غيره ،وحلفوا أنَّه من عند اللّه لئلا يفوتهم الرّشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم » .
وفيه أيضاً عن سفيان عن الأعمش عن عبد اللّه ،قال: «قال رسول اللّه: من حلف على يمين ،وهو فيها فاجر ،ليقطع بها مال امرىءٍ مسلم ،لقي اللّه وهو عليه غضبان ،فقال الأشعث بن قيس: فيَّ واللّه ،كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ،فجحدني ،فقدّمته إلى النبيّ ،فقال: لك بيّنة ؟قلت: لا ،فقال لليهودي: أتحلف ؟قلت: إذاً يحلف ،فيذهب بمالي .فأنزل اللّه عزَّ وجلّ: [ إنَّ الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمناً قليلاً] الآية .
إنَّنافي منهجنا التفسيريلا نجد لدينا أيّة نصوص موثقة كبيرة مما رواه الرواة في أسباب النزول ،لضعف أسانيد بعضها وإرسال بعضها الآخر ،فيمكن أن تكون أموراً اجتهادية طرحت بشكل رواية ،وأن تكون منطلقة من أجواء معينة ،لذلك فإنَّنا لا نعتمدها كموثقة تفسيريةفي تفسير القرآنولكنَّنا نقف عندها ،باعتبارها نموذجاً من نماذج ذهنية بعض المفسِّرين القدامى في فهم النص القرآني وتحليله .ومن خلال هذه الملاحظة ،نجد أنَّ الرِّوايتين الأوليين أقرب إلى جوّ النص في الآية من الرِّواية الثالثة ،لأنَّ سياق الآيات هو سياق الحديث عن أهل الكتاب في موقفهم من الرسالة الإسلامية ومن نبوّة النبيّ محمَّد ( ص ) ،وإنكارهم ما جاء في صفته في التوراة في محاولتهم لإخفاء ذلك كلّه ،خلافاً لما عاهدوا اللّه عليه في إيمانهم الديني من تبيانهم الحقّ الذي أوصى اللّه به وعدم كتمانه ،وهو مظهرٌ لتمردهم على اللّه في أيمانهم المغلظة ضدَّ النبيّ والقرآن ،ليحصلوا من خلال ذلك على الموقع المميز بين اليهود ،لأنَّ دخولهم في الإسلام وإقرارهم بالحثّ قد يعرّضهم لفقدان ذلك ،لأنَّ جماعتهم سوف يرتبطون بالنبيّ بشكلٍ مباشر دون غيره من هؤلاء الزعماء الذي عرفوهم بالانحراف والخداع ؛واللّه العالم .
الإسلام ونقض العهود:
إنَّ الحياة الاجتماعية ،في كلّ مجالاتها الحيويّة ،ترتكز على أساس المواثيق والعهود التي يفرضها الفرد على نفسه من خلال قناعاته ومرتكزاته وحاجاته ،أو تفرضها المجتمعات على نفسها للآخرين ،في نطاق الدول أو المؤسسات أو الجماعات ...وليس لهذه المواثيق والعهود قيمةٌ في الوصول إلى توازن الحياة من خلالها ،إلاَّ في نطاق الالتزام بها والوفاء بمقتضياتها .وقد أكّد اللّه على ذلك في هذه الآية باعتبارها عهداً للّه ،فمن ينقض أيّ التزام في يمين أو عهد ،فإنَّه ينقض عهد اللّه ،وذلك من خلال ما أمر اللّه به من الوفاء بالعقود في قوله تعالى: [ أوفوا بالعقود]
( المائدة:1 ) وقد كنّى عن نقض العهد واليمين بالاشتراء بهما ثمناً قليلاً ،لأنَّ الإنسان لا ينقض عهده إلاَّ لمصلحة مالية أو ذاتية في نطاق آخر ،فكأنَّه يأخذ عوض العهد واليمين ثمناً من مالٍ أو جاهٍ أو شهوةٍ أو غير ذلك مما يريده النّاس من عَرَض الحياة الدُّنيا .
ونلاحظ اهتمام الإسلام الكبير بالعهد أنَّهفي سورة براءةأعلن البراءة من المشركين كافة ،واستثنى المعاهدين منهم ،وذلك قوله تعالى: [ إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثُمَّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم] ( التوبة:4 ) وقوله تعالى: [ كيف يكون للمشركين عهدٌ عند اللّه وعند رسوله إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم] ( التوبة:7 ) ما يوحي بأنَّ قضية الوفاء بالعهد في الإسلام لا تنظر إلى طبيعة من عاهدته من حيث عقيدته أو التزامه أو سلوكه ،وذلك هو قوله تعالى: [ لا خلاق لهم] ،بل تنظر إلى طبيعة التزام المسلم به كخلق إسلامي أصيل يفرض عليه مسؤولية لا بُدَّ له من القيام بها والوقوف عندها ؛ما يعني أنَّ معنى أن تكون مسلماً هو أن تلتزم بعهدك لأيّ إنسان كان .فإذا لم تفعل ذلك ،فإنَّ عليك أن تتلقى هذا التنديد من اللّه ،فتكون ممن لا خلاق لهم ولا نصيب في الآخرة ،لأنَّ نصيب الآخرة هو للذين حملوا مسؤولية الإيمان في الدُّنيا في ما للنّاس عليهم من حقوق وواجبات ،وتكون ممن لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ،بل يطردهم من رحمته ،ولا يزكيهم ،لأنَّهم لا يملكون أساساً للتزكية ،بعد أن كانت نفوسهم غارقة في أجواء الخيانة ،ولهم عذابٌ أليم بما قاموا به من أعمال وجرائم في نقضهم عهد اللّه وخيانتهم له .
تجارة خاسرة:
[ إنَّ الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم] الذي عاهدوا اللّه عليه من حيث إعلانهم التزام الدين الذي آمنوا به من خلال أخلاقيته في الوقوف مع الحقّ ،وإبلاغه للنّاس ،وعدم كتمانه على أساس العقدة الذاتية والطائفية [ ثمناً قليلاً] فاختاروا المتاع الزائل من المال أو الجاه وغيرهما من متاع الدُّنيا الفانية ،وفضّلوه على الوفاء بعهد اللّه والالتزام بالتَّقوى ،لأنَّهم لم يفكروا تفكيراً دقيقاً في نتائج هذا الموقف وتأثيراته السلبية على مستقبلهم في علاقاتهم باللّه في الدُّنيا والآخرة ،وأقبلوا على شهواتهم وأطماعهم في عملية استغراق في الذات بعيداً عن اللّه وميثاقه ،مما لا يتناسب من حيث حجمه في ذاته مع نعيم الآخرة ولذاتها ،لأنَّ ما عند اللّه خيرٌ وأبقى ،ورضوان اللّه أكبر .ولهذا عبّر عن خيارهم الفردي بأنَّهم أخذوا به الثمن القليل .ولعلّ التعبير بالاشتراء في اختيارهم جاء على سبيل الكناية من حيث مشابهة ذلك الموقف لعملية البيع والشراء ،وإن لم يكن ذلك وارداً بالمعنى المصطلح ،[ أولئك] النّاس الموجودون في كلِّ زمان ومكان [ لا خلاق لهم] في سلوكهم العملي المنحرف على مستوى العقيدة أو على مستوى القضايا العامّة والخاصّة في العلاقات المالية والاجتماعية بين النّاس ،[ في الآخرة] أي في الدار الآخرة التي يحصل كلّ إنسانٍ فيها على نتائج مسؤوليته في عمله في الدُّنيا ،إن كان خيراً فخير وإن كان شرّاً فشرٌ ،أي لا نصيب لهم ولا حظ في يوم القيامة ،مما يحقّق للإنسان سعادته وراحته ،لأنَّ ذلك هو الجائزة التي ينالها الذين يوفون بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق ،على هدى قوله تعالى: [ ولا يكلمهم اللّه] ،فلا يكرمهم بالتكلّم معهم بالطريقة الحميمة التي يكلّم بها أولياءه ،فربَّما كان التعبير وارداً على سبيل الكناية ،لأنَّ الكلام مع الشخص يعبّر عن الإقبال عليه والاهتمام به ،بينما يمثِّل ترك الكلام معه إهماله واعتباره شيئاً مهملاً لا يوحي بأيّة عناية أو رعاية ؛بل قد يكون مظهراً من مظاهر السخط والعقاب ،[ ولا ينظر إليهم يوم القيامة] أي لا يلتفت إليهم التفات المحبّ لمن يحبّه ،لأنَّ النظر يمثِّل الانفتاح على المنظور إليه والاعتناء به ،فالفقرة واردة مورد الكناية للتعبير عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ،كما تقول: فلان لا ينظر إلى فلان ،تريد بذلك نفي الاهتمام والاعتناء به والاعتداد بوجوده ،تماماً كما لو لم يكن موجوداً كلياً .
وقد أثار صاحب تفسير الكشاف سؤالاً حول الموضوع ،باعتبار أنَّ اللّه لا يجوز عليه النظر كما يجوز على الإنسان ،لأنَّه ليس جسداً بالمعنى الحسّي للجسد ،قال: «فإن قلت: أيّ فرقٍ بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه ؟قلت: أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ،لأنَّ من اعتدّ بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ،ثُمَّ كثر حتّى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسان ،وإن لم يكن ثَمَّ نظر ،ثُمَّ جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرّداً لمعنى الإحسان مجازاً عمّا وقع كنايةً عنه فيمن يجوز عليه النظر » .
[ ولا يزكّيهم] أي لا يُثني عليهم ،لأنَّ الثناء على المؤمنين العاملين بطاعة اللّه في خطّ الاستقامة ،وربَّما جاء في كلام بعض المفسِّرين أنَّ المراد من التزكية المعنى العملي ،أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة ،بل تبقى هذه القذارة عليهم ليتحملوا نتائجها السيئة ،[ ولهم عذابٌ أليمٌ] في الدُّنيا والآخرة .