انحراف عملي عند أهل الكتاب:
[ وإنَّ منهم] أي من اليهود ،[ لفريقاً] أي طائفة لا كلّهم ،[ يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب] من خلال محاولة إيجاد بعض عناصر الشبه به في اللفظ أو المعنى ،[ وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه] .
وهذه ظاهرة من ظواهر الانحراف العملي لدى أهل الكتاب ،من خلال ما كانوا يقومون به من تحريف كلام اللّه ،وهو الذي أشارت إليه الآية بكلمة: [ يلوون ألسنتهم بالكتاب] فإنَّ الليّ هو عطف الشيء ،وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج على سبيل الكناية عن التحريف ...وذلك بالأساليب الفنيّة التي يتقنونها ،بحيث يعطون الكلمة المحرّفة بالزيادة أو النقصان ،جوّاً يقترب بها من أجواء التوراة ،فيُخيّل للسامع أنَّها من الكتاب لشبهها بكلماته وأجوائه ،ولكن المتأمّل المتدبّر الذي يعرف كتاب اللّه في أسلوبه ومضمونه ومقاصده يستطيع أن يجزم بأنَّ ذلك ليس من الكتاب ،لأنَّه يبتعد عنه في ما يثيره من قضايا أو ما يتجه إليه من أهداف .وتلك هي طريقة القرآن في توجيهه للمسلمين ولغيرهم لاستيعابهم للقرآن ،ليستطيعوا أن ينطلقوا من خلال ذلك في معرفة معانيه من جهة ،وفي التمييز بين كلام الخالق وكلام المخلوق من جهة أخرى .وفي ضوء ذلك ،يمكننا أن نلاحظ أنَّ التحريف الذي ينسبه البعض إلى القرآن لم يتقبله إلاَّ الذين أغلقوا عقولهم عن التفكير انطلاقاً من قداسة لا قداسة لها ،أو من رواية لا أساس لها ،أو من غفلة مطبقة لا يقظة بها ...أمّا المفكّرون الذين يحلّلون الفكرة والكلمة والأسلوب ،فإنَّهم يكتشفون الزيف بعقولهم من أقرب طريق ،لأنَّ الفكر يقود إلى النور الذي يفضح كلّ ضباب الشك والوهم المتحرّك في العيون والأفئدة والأعماق ...
...وتتحرّك الآية في رصدها للظاهرة ،وفي تأكيدها على زيف مضمونها ؛فتكرر الفكرة بأسلوب آخر: [ ويقولون هو من عند اللّه] وتنفي ما قالوه بتأكيد: [ وما هو من عند اللّه] .ويتحوّل التأكيد إلى مهاجمة للشخصية الكاذبة التي تختبئ خلف قناع من الصدق: [ ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون] .ولا شيء أعظم خطراً من الكذب على اللّه ،لأنَّه يجعل الحياة السائرة في طريقه تحت رحمة المفاهيم المزيّفة المنحرفة المتحرّكة في مسيرة البسطاء باسم اللّه وأنبيائه ورسله .
التحريف في آفاق المعنى:
وقد ذهب بعض المفسِّرين إلى تفسير الآية بوجه آخر ،فاعتبر التحريف الذي تشير إليه الآية ،تحريفاً في المعنى والتفسير وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد .ولكن هذا غير ظاهر من اللفظ ،وإن كان الوجه صحيحاً في نفسه ،فإنَّ التحريف في التفسير وإبعاد الكلمة عن معناها وصرفها عن وجهها ،لا يقلّ خطورةً عن التحريف في الكلمة ذاتها ،بالنظر إلى وحدة النتيجة في ما يريده اللّه سبحانه من وضع الكلمة في موضعها ،من حيث اللفظ والمعنى ،من أجل أن يصل الإنسان إلى وعي الحقيقة الدينية التي أوحى بها اللّه إلى رسله ،في صفاء ونقاء ،وليرتبط بها من منطق الصدق والواقع ،لا من موقع الكذب والباطل ...
وقد عانت الكتب السَّماوية من المحرّفين الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ،ممن يسيئون إلى الدين بالإساءة إلى صفاء معانيه الأصيلة ،فيحمّلون اللفظ غير ما يحتمل ،ويضيفون إلى الكلام ما لم يوحِ به اللّه .
ومن خلال ذلك ،انطلقت المذاهب الفكرية المتنوعة من التفسير المنحرف والتأويل بالباطل ،فحاولت كلّ فئة أن تجعل الكتب السَّماوية دليلها على ما تُحاوله من فكر وسلوك ،وذلك بالأساليب الخادعة التي تستغل غموض الكلمة وقابليتها للحمل على أكثر من معنى ،فتُبعدها عن معناها الأصيل ومصاديقها الصحيحة ...وقد عاش القرآن الكريم هذه المشكلة ،كما عاشتها الكتب السَّماوية الأخرى ،فقد تحوّل لدى البعض من النّاسمن المتقدّمين والمتأخرينإلى معرض للأفكار المختلفة ،فحاول كلّ فريق أن يحمله على ما يريد ،وذلك بالتحوير والتغيير والتأويل في المعنى ،إذا لم يستطع ممارسة ذلك باللفظ .
ولا تزال القضيةالمشكلة تفرض نفسها على الساحة القرآنية الإسلامية في ما يعانيه المسلمون من حركة المبادئ المنحرفة عن خطّ الإسلام ،التي تُحاول أن تدخل إلى حياة المسلمين وأفكارهم على أساس تضمين القرآن الكريم في آياته بعضاً من أفكارها الضالّة ،للإيحاء لهم بأنَّ الإسلام يتبنى مثل هذه الأفكار ويتعاطف معها ،فيكون ذلك لهم حجّة على صحة ما يذهبون إليه من خطّ سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في الحياة ،فينبغي للمسلمين أن يدقّقوا النظر في ذلك ،ويتأمّلوا فيه ،على أساس القواعد اللفظية اللغوية والفكرية في فهم القرآن في حقائقه ومجازاته .فإنَّ المجازات تحتاج إلى المناسبة القريبة بين المعنى الذي وضع له اللفظ وبين المعنى الجديد الذي يُراد استعمال اللفظ فيه مجازاً ،ولا يجوز استعمال اللفظ فيها من دون مناسبةٍ ،أو بمناسبة لا يتحمّلها الذوق السليم .