{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} ،لأن ذلك هو الزاد الروحي للمؤمن المقاتل الذي يمنحه الشعور بالقوة ،عندما يحسّ بحضور الله معه في المعركة وفي كل حالات التحدي ،فيؤدّي به ذلك إلى طرد كل نوازع الخوف والقلق والضياع من نفسه ،ليحلبدلاً منهاالشعور بالأمن والثبات ووضوح الرؤيا والامتلاء الروحي بعظمة الله ...{فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} وذهب عنكم الخوف بذهاب الأسباب التي تثيره وتدعو له ،ورجعتم إلى أوطانكمكما قيل{فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ} بتمامها{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} ؛فقد أنزلها الله فرائض مؤقتة بأوقاتهاعلى بعض التفاسيرفريضة ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل بحالعلى رأي بعض آخروقد أكدت هذا المعنى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت( ع ) ،فقد ورد في الكافي ،بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله( ع ): قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} ؟قال: كتاباً ثابتاً ،وليس إن عجَّلت قليلاً أو أخرت قليلاً بالذي يضرك ما لم تضيِّع تلك الإضاعة .
وهناك نقطتان لا بد من الإشارة إليهما: النقطة الأولى: إن الظاهر من الآية أنها واردة في صلاة الخوف مطلقاً ،سواء أكان المسلمون في السفر أم في غيره ،وإنما ذكر السفر من جهة أنه الحالة الغالبة في الحرب التي كان المسلمون يخوضونها ،ولا اختصاص لها به ،ولذلك التزم الفقهاء بقصر الصلاة في حال الحرب حتى لو كان ذلك في الحضر ،كما إذا هاجم المسلمين العدوُ في داخل بلادهم ،كما أنها ليست مختصة بحال الحرب ،بل هي شاملة لكل حالة خوف تشغل الإنسان عن إتمام الصلاة ،وقد جاء في كتاب جواهر الكلام ما يؤكد ذلك ،قال: «إذا خاف من سيلٍ أو سبع أو حيةٍ أو حريق أو غير ذلك ،جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فيقصر عدداً وكيفيةً لعدم الفرق في أسباب الخوف المسوّغة ،فقد سُئل الإمام جعفر الصادق( ع ) عمن خاف من سبع أو لص: كيف يصلّي ؟قال: «يكبّر ويومىء إيماء برأسه » .
النقطة الثانية: هل الآية دالة على وجوب قصر الصلاة للمسافر بحيث تتضمن تشريع الحكم بقول مطلق ،أو هي مختصة بحالة الخوف من حيث منطوقها ؟ربما يذهب البعض إلى الوجه الأول على أساس أن يكون ذكر الخوف من الأعداء وارداً مورد الغالب ،بلحاظ أن الأعم الأغلب في أسفارهم الخوف من العدو ،لأنهم كانوا مستهدفين من كل الواقع الكافر المشرك في تلك المرحلة ،وعلى ضوء ذلك ،يكون القيد في قوله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ..} وارداً مورد باب الغلبة ،وربما يؤكد ذلك ما ورد عن الإمام محمد الباقر( ع ) في الاحتجاج على تعين القصر في صلاة المسافر بهذه الآية وتفسيره كلمة{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} بورودها في مقام توهم الحرمة .
وربما يرى البعض أن الآية واردة في مورد الحديث عن صلاة الخوف بقرينة التفصيل في الحديث عنها مع عدم التحدث بتفصيل عن صلاة المسافر ،أما الرواية عن الإمام الباقر( ع ) ،فهي واردة في تفسير صلاة القصر ولو في هذا المورد .
وعلى كل حال ،فإن مثل هذا البحث يبقى في جانب الثقافة التفسيرية ،أمّا في مسألة الحكم الكلي في صلاة المسافر ،فإن الأمر فيها ثابت بالسنة النبوية بلا إشكال ،مع الخلاف الفقهي المذهبي بين الإلزام والتخيير .
وما دام الحديث منفتحاً على القصر في صلاة المسافر ،فقد يثير البعض ضرورة إلغاء هذا الحكم في الوقت الحاضر ،لأن الأساس فيهاحسب الظاهرهو المشقة اللازمة في السفر في العصور السابقة ،لأن وسائل السفر عندهم كانت البغال والحمير والجمال ونحوها ،مما يعاني معها المسافر مشقة كبرى ،أما الآن فيمكن للمؤمن قطع المسافة المعتبرة في تحديد مقدار السفر بوقت قصير من دون أية مشقة من خلال الوسائل الحديثة ،كالسيارة والطائرة والباخرة ونحوها ،والجواب ،أن المسألة تنطلق من طبيعة التسهيل ،باعتبار أن السفر يمثل حالة من حالات عدم الاستقرار ؛الأمر الذي يطلب فيه التخفيف ،ولذلك وجب التمام عند الإقامة عشرة أيام ،أو إذا كان عمل الإنسان السفر ،بحيث يكون السفر أمراً عادياً له ،أو نحو ذلك ،وقد ورد الحديث عن النبي( ص ) أنه قال في موضوع قصر الصلاة: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته »[ 9] ،وقد روي عن الإمام جعفر الصادق( ع ) قال: قال رسول الله( ص ): إن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ،أيسرُّ أحدكم إذا تصدّق بصدقةٍ أن تُردَّ عليه ؟.
وقد روي عن أبي عبد الله( ع ) قال: الصّائم في السّفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر ،ثم قال: إن رجلاً أتى النبي( ص ) فقال: يا رسول الله أصوم شهر رمضان في السفر ؟فقال: لا ،فقال: يا رسول الله إنه عليَّ يسير ،فقال رسول الله( ص ): إن اللهعز وجلتصدّق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان ،أيحب أحدكم لو تصدّق بصدقةٍ أن تُردَّ عليه ؟.
وهكذا نلاحظ أن المسألة لا تنطلق من حالةٍ اختياريةٍ تابعةٍ لسهولة السفر وصعوبته ،ومشقة الصوم ويسره ،بل هي هدية إلهية في التشريع من أجل التخفيف على المسافر بطريقةٍ إلزامية ؛والله العالم .